للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعقيب المصنف على آثار السلف في تغير حال المسلمين]

قال: [قال الشيخ ابن بطة: إخواني! فاستمعوا إلى كلام هؤلاء السادة من الماضين والأئمة العقلاء من علماء المسلمين، والسلف الصالح من الصحابة والتابعين، هذه أقوالهم، والإسلام في طرافة ومطاوعة وعنفوان قوته واستقامته].

يريد أن يقول لك الحسن البصري وأبو الدرداء وغيرهم ما قالوا هذا الكلام الذي يتفطر فيه القلب دماً وغماً إلا والإسلام في عز قوته وعنفوانه وشبابه.

قال: [والأئمة راشدون، والأمراء مقسطون -أي: عادلون- فما ظنكم بنا وبزمان أصبحنا فيه وما نعانيه ونقاسيه، ولم يبق من الدين إلا العكر، ومن العيش إلا الكدر، ونحن في دردى الدنيا وثمارها]، أي: الحثالة من الطين التي تبقى في الماء، فهو يريد أن يقول: نحن الآن في نهاية الدنيا، وقد ذهب المسلمون الحق ولم يبق إلا الغثاء، وهذا في زمنه هو، فكيف بزماننا نحن؟! قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: ذهب صفو الدنيا فلم يبق إلا الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم]، عبد الله بن مسعود يقول هذا في زمن النبوة في القرن الأول، يقول: الموت اليوم تحفة وهدية الله عز وجل للمسلم؛ لأنه قد ذهب الذين يعاش في أكنافهم.

ولذلك يقول أبو هريرة: لقد ذهب الناس ولم يبق إلا النسناس.

فـ أبو هريرة يقول هذا، إذاً: ماذا نقول نحن؟! وعائشة رضي الله عنها تقول: لقد ذهب الذين يعاش في أكنافهم، أي: لم يبق أحد يستحق الصحبة والعشرة وغير ذلك من أقاويل أشراف الأمة في أعظم زمن الأمة وهو صدر الإسلام.

قال: [وقال زبيد: حدثني أبو وائل، قال: قال عبد الله بن مسعود: ذهب صفو الدنيا فلم يبق إلا الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم، فقال الرجل الذي حدثه أبو وائل وزبيد: سمعت عبد الله يقول: ما شبهت الدنيا إلا بالتعب يسري صفوه ويبقى كدره، ولن يزالوا بخير ما إذا حز في نفس الرجل وجد من هو أعلم فمشى إليه فسقاه].

أي: أنه يريد أن يقول: إن الخير الذي كان موجوداً في زمن عبد الله بن مسعود أن الواحد منهم عندما تحيك في صدره مسألة من مسائل العلم، فيسأل عن العلماء، فيجد عالماً يفتيه ويشفي غلته، فهذا هو الخير الذي كان موجوداً في زمن عبد الله بن مسعود وبعد ذلك لم يبق إلا الكدر.

ثم يقول: [وايم الله ليوشكن أن تلتمس ذلك فلا تجده]، أي: أنه يقسم بالله أن الرجل صاحب المسألة يسير في الناس، ويسأل عن عالم يفتيه فلا يجد؛ ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: أيها الناس! تعلموا قبل أن تسودوا، أي: تعلموا قبل أن تصيروا سادة كباراً؛ لأن من صار سيداً وكبيراً ثم عزل من سيادته ونزل من كبريائه يستنكف أن يجلس في مجالس العلم، أي: بعد أن يصير وزيراً أو رئيساً أو مديراً أو غير ذلك، فهل يقبل أن يرجع مرة أخرى؟ ولذلك لما حمل رجل على القضاء في زمن مالك قال: حتى أستخير وأستشير، فاستشار مالكاً في ذلك، فقال مالك: لا أحب أن تتولى القضاء إلا بعد أن تتعلم، مع أن هذا الرجل كان من أنبغ تلاميذ مالك، لكن مالكاً أراد له أن يبلغ الكمال والتمام في العلم.

قال: ولم يا إمام؟ قال: لأنك لو عزلت عن القضاء لا ترجع إلينا هنا.

وكان عروة بن الزبير يقول لأبنائه وأبناء أخيه: يا بني تعلموا العلم، فإنكم صغار قوم اليوم تكونون كبار قوم غداً.

فطلب العلم من أشرف المطالب، ويكفي أنه واجب على كل مسلم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

قال: [وقال إبراهيم بن نصر: سمعت الفضيل بن عياض يقول: كيف بك يا إبراهيم بن نصر إذا بقيت إلى زمان شاهدت فيه ناساً لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا بين المؤمن والكافر، ولا بين الأمين والخائن، ولا بين الجاهل والعالم، ولا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً]، فتصور أن زمناً يكون فيه كل هذه الآفات، وربما يكون هذا الزمن الذي نحن فيه.

قال ابن بطة: [فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإنا قد بلغنا ذلك وسمعناه، وعلمنا أكثره وشاهدناه، فلو أن رجلاً ممن وهب الله له عقلاً صحيحاً، وبصراً نافذاً، فأمعن نظره، وردد فكره، وتأمل أمر الإسلام وأهله، وسلك بأهله الطريق الأقصد، والسبيل الأرشد، لتبين له أن الأكثر الأعم الأشهر من الناس قد نكصوا على أعقابهم، وارتدوا على أدبارهم، فحادوا عن المحجة، وانقلبوا عن صحيح الحجة.

ولقد أضحى كثير من الناس يستحسنون ما كانوا يستقبحون، ويستحلون ما كانوا يحرمون، ويعرفون ما كانوا ينكرون، وما هذه -رحمكم الله- أخلاق المسلمين، ولا أفعال من كانوا على بصيرة في هذا الدين، ولا من أهل الإيمان به واليقين].

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وإنا لله وإنا إليه را