[جواز الغيلة وهي وطء المرضع، وكراهة العزل]
قال: [عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة)]، أي: لقد هممت أن أنهاكم أيها الناس! أن يجامع أحدكم امرأته وهي مرضع.
قال: [(حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم)]، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم تذكر أن فارس والروم يفعلون ذلك، أي: يجامع أحدهم امرأته في أثناء إرضاعها لابنها ولا يضر ذلك الولد، وأن القول المزعوم بأن اللبن حينئذ يضره ليس حاصلاً.
قال: [وقالت جدامة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئاً، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الوأد الخفي)].
والمعنى: أنهم كانوا يعزلون والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وما كان ينهاهم، والوأد الخفي حرام، لكن الوأد لا يكون حراماً إلا بعد أن تخلق النطفة، وهذا هو الإجهاض، وأشد حرمة منه الوأد بعد الميلاد مخافة العار أو مخافة الفقر أو تبعاً لأخلاق الجاهلية وغير ذلك، فهذا كله حرام، وقد نهى عنه القرآن نهي تحريم وشنع على فاعله.
وهنا علم النبي صلى الله عليه وسلم أن العزل وأد خفي، ومع هذا لم ينهنا عنه فكيف يكون ذلك؟ الوأد عموماً -كما قلنا- هو بعد التخليق، لكن هذا وأد دون الوأد الذي نهى عنه القرآن؛ لأنه وأد للنطفة، وليس للعلقة ولا للمضغة المخلقة، ولا بعد أن تنفخ فيه الروح، ولا بعد الميلاد ذكراً كان أم أنثى، وإنما ذلك وأد للنطفة منذ تكوينها؛ لأن العبد المجامع لامرأته إذا قارب الإنزال أنزل ماءه خارج الرحم أو خارج فرج المرأة، وهذا معنى العزل، فالنطفة لم تبلغ مرحلة من المراحل بعد، ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم مجازاً وأداً خفياً، وليس الوأد الذي يستلزم قيام الحد.
قال: [وعن سعد بن أبي وقاص: (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تفعل ذلك؟ فقال الرجل: أشفق على ولدها أو على أولادها، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لو كان ذلك ضاراً ضر فارس والروم)، وفي رواية: (إن كان لذلك فلا، ما ضر ذلك فارس ولا الروم)].
يقول العلماء: العزل جائز مع الكراهة لعدم وجود النهي من النصوص، والعزل عن الزوجة والأمة هو أن يجامع الرجل حليلته، فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج، وسبب ذلك: العزوف عن علوق المرأة وتكوين حمل في رحمها، وإما لأسباب صحية تعود إلى المرأة أو إلى الجنين -وهو ما يسمى بالغيلة- أو إلى الطفل الرضيع، أو ربما يكون بسبب فساد الزمان، فقد يقول شخص: نحن في زمن شر، وأنا أخشى على أولادي أن يكونوا فاسدين في المجتمع، أو أن يتأثروا بفساد المجتمع، لكن صلاح النية وحده لا يكفي في أغلب الأحوال، بل لابد من متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهنا لو أن هذا الرجل عزل بهذه النية وقدر الله تعالى له الولد جاء الولد.
وقد ذهب جمهور من الفقهاء إلى جواز عزل السيد عن أمته مطلقاً، سواء أذنت له في ذلك أو لم تأذن؛ لأن الوطء حق له وليس للأمة، فللرجل الذي له أمة أن يبيعها في أي وقت شاء، أو يعتقها في أي وقت شاء، فهي ملك له كأي متاع، فإذا شاء أن يستمتع بها استمتع، لكن إن استمتع بها فحملت صارت أم ولد وانتقلت إلى أحكام أخرى، لكن لو أراد السيد أن يستمتع بأمته وما أراد منها الولد لأي عذر من الأعذار، كأن يريد أن ينتفع بها في يوم من الأيام بالبيع أو الشراء، أو ربما يخشى من سوء أخلاقها فيتأثر بها ولدها، وغير ذلك من الأعذار الكثيرة، وهي كذلك، أي: وإن لم يكون لها حق على سيدها في الوطء فليس لها حق على سيدها في الحمل، فكل ذلك له.
أما العزل عن الحرة المحصنة العفيفة فهل يلزم فيه إذنها أم لا يلزم؟ وهل الوطء حق له هو أم حق لهما؟ وهل هناك فرق بين الوطء والاستمتاع؟ هذا محل نظر واختلاف بين أهل العلم، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين: الرأي الأول: إباحة العزل مطلقاً عن الحرة سواء أذنت في ذلك أو لم تأذن، أي: أنها تماماً كالأمة، إلا أن ترك العزل عن الحرة أفضل، وهو الراجح عند الشافعية، وذلك لأن حقها الاستمتاع دون الإنزال إلا أنه يستحب استئذانها.
وفي الحقيقة هذا المذهب ضعيف، والذي أعتقده أن الحرة لابد من استئذانها؛ لأنها شريكة زوجها في الاستمتاع والولد، كما أنها شريكته في الوطء، فهي صاحبة الحق في هذا، والاستمتاع في أثناء الجماع لا يغني عن استمتاع المرأة في لحظة الإنزال، فهذا حقها لا يجوز لزوجها أن يعزل عنها بغير إذنها، فإن أذنت حل له ذلك وإلا فلا.
الرأي الثاني: يباح العزل عن الحرة بإذنها، فإن كان لغير حاجة فمكروه، والحاجة هي الأعذار التي ذكرت من قبل، وهذا قول عمر، وعلي، وابن عمر