للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجهمية الخالصة الغالية (النفاة)]

الدرجة الأولى من الجهمية: هم الذين يسميهم العلماء: الغلاة أو الجهمية الغالية، وقولنا: الغالية، من الغلو، أي: المغالية في تجهمها، وهم الذين ينفون أسماء الله تعالى وصفاته، يجردون ذات الله عز وجل من كل اسم ومن كل صفة، ويقولون: الله بلا أسماء وبلا صفات.

وأحياناً يريدون أن يحسنوا وجههم القبيح، فيقولون: لله أسماء لكنها ليست مرادة، ولله صفات ولكنها ليست مرادة، ولهم فلسفات سنتعرف عليها بإذن الله تعالى.

ولذلك يقول الشيخ هنا: وهم أشر درجات الجهمية، وهم الذين ينفون أسماء الله تعالى وصفاته، وإن سموه بشيء من الأسماء الحسنى قالوا: هو مجاز، فهو في الحقيقة عندهم ليس بحي، ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، ولا يتكلم، فحقيقة قولهم: أنهم لا يثبتون شيئاً لله.

إذا أردت أن تنظر إلى حقيقة قولهم فلا بد أن تعلم أنهم ينفون عن الله تعالى الأسماء والصفات مطلقاً.

قال: ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية، فإذا قيل لهم: فمن تعبدون؟ -هل تعبدون رباً لا اسم له ولا صفة له- قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فإذا قيل لهم: فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هل هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم.

فإذا قيل لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى؟ قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم- ثم عللوا بأن الله تعالى لا يتكلم ولن يتكلم بقولهم: لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة.

يعني: الكلام لا يكون إلا بلسان وفم ولهاة، والله تعالى منزه عن ذلك.

إذاً: فقد آلة الكلام فلا يتكلم، إذ كيف يتكلم والعقلاء قد علموا أن المتكلم لا بد له من جارحة يتكلم بها، ونقول: هذا في حق المخلوقين، أما في حق الخالق فإن القياس منتفٍ، فالله تعالى يتكلم بحرف وصوت، ويتكلم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، وما زال كلام الله تبارك وتعالى قائماً، ولا زال الله تعالى متصفاً بالكلام لا ينتفي عنه ذلك سبحانه وتعالى، وصفة الله تعالى ليست مخلوقة أياً كانت هذه الصفة، الكلام أو غير الكلام، ولكنهم يقولون: لا بد للمتكلم من جارحة، مع أن الله تعالى في القرآن أخبر أن بعض مخلوقاته يتكلم بغير جارحة، كقوله تعالى عن السماوات والأرض: {َقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا -أي: تكلمتا السماوات والأرض- أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:١١].

إذاً: السماوات والأرض تكلمتا بغير جارحة، أم أن للأرض لساناً وفماً ولهاة، وللسماوات لساناً وفماً ولهاة؟ هل أحد منا يعتقد أن للأرض لساناً أو فماً أو لهاة؟ لا أحد يعتقد ذلك، ومع هذا أثبت الله تعالى أن السماوات والأرض تكلمتا.

وقال الله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد:١٣]، من من الناس يعلم أن الرعد له لسان يسبح به؛ لأن التسبيح لا يكون إلا بجارحة؟ وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى، وكذلك الجبال، هل رأى أحد منا جبلاً له لسان، أو بحراً له لسان؟ إن الله تبارك وتعالى سخر الجبال مع داود يسبحن والطير، هل الطير له لسان يسبح به ويتكلم كما نتكلم؟ إذاً: لا يلزم دائماً لكل متكلم أن يتكلم بجارحة، وإذا كان هذا في حق بعض المخلوقين فما بالك بالخالق سبحانه وتعالى، فهو قادر على أن يتكلم كيفما شاء وبما شاء.

قالوا: والجوارح عن الله منتفية.

نقول: نعم.

الجواح عن الله منتفية.

قال الشيخ: وإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله تعالى.

الجاهل يقول: هؤلاء ما أرادوا إلا تنزيه المولى عز وجل أن يكون شبيهاً بمخلوقاته أو مثيلاً لمخلوقاته، ولكن عند النظر والتدقيق يتبين أن هؤلاء ليسوا معظمين لله عز وجل، وإنما هم معطلون لأسماء الله عز وجل ولصفاته.

قال: وقد أفصح عن هذا المذهب رجل منهم يسمى ابن الإيادي.

أخطأ شيخ الإسلام ابن تيمية، وربما لا يكون هو الذي أخطأ حينما الناسخ لكتابه هو الذي أخطأ أنه قال: ابن الأباري، وابن الإيادي وابن الأباري في الرسم شيء واحد، وهو أقرب إلى التصحيف.

فالذي يقرأ عن تاريخ الفرق سواء كان في كتاب موسوعة الفتاوى لـ شيخ الإسلام أو في درء تعارض العقل والنقل، أو في كتاب منهاج السنة لـ ابن تيمية يجد ابن الأباري، وفي الحقيقة ليس هناك أحد بهذا الاسم، إنما هو ابن الإيادي، فالصواب: أنه ابن الإيادي.

قال: وكان ابن الإيادي ينتحل قول الجهمية، فزعم أن البارئ عالم، قادر، سميع، بصير في المجاز لا في الحقيقة.

يعني: أن الله تبارك وتعالى عالم مجازاً، وكلمة (مجاز) تنفي العلم الحقيقي عن الله عز وجل؛ لأن المجاز ضد الحقيقة، فإذا قلنا: إن الله تعالى عالم مجازاً لا حقيقة؛ لزمنا أن نقول: إن الله تعالى بذاته ليس عالماً، وإنما أودع علمه بعض مخلوقاته؛ ولذلك الجهمية أخذوا كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام من أوله إلى آخره، كلما مروا على اسم أو صفة جعلوه مجازاً لا ح