[كلام شيخ الإسلام في عدم كفر مرتكب الكبيرة]
واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية على عدم كفر مرتكب الكبيرة بدليل عقلي في غاية الروعة والجمال، فقال: الدليل على أن مرتكب الكبيرة ليس كافراً أنه لا زال بعد ارتكابه لكبيرته مخاطباً بأصول وفروع الشريعة التي يخاطب بها المؤمنون.
قال: والتحقيق -يعني: الكلام الحق في تأويل هذه النصوص- أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
وقوله: (مؤمن بإيمانه) أي: بما عنده من طاعة وإيمان، فاسق بسبب معصيته؛ لأن الذي يرتكب كبائر الذنوب يفسق بذلك حتى وإن كان ذنباً واحداً.
وقد قلت سابقاً: إنه يجتمع في العبد إيمان وفسق، أما الإيمان فمصدره الطاعة، وأما الفسق فمصدره المعصية، والعبد المؤمن يكون بين هذا وذاك، والصحابة رضي الله عنهم منهم من زنا، ومنهم من سرق، ومنهم من قتل، ولم يقل النبي عليه الصلاة والسلام لأحد منهم: أنت مرتد أو كافر، ولو كفر أحدهم بذلك لأقام عليه حد الردة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما ماتت الغامدية التي زنت صلى عليها، ولو كانت مرتدة كافرة بهذا الزنا لما صلى عليها؛ لأنه لا تصح الصلاة على الكافر.
وماعز الإسلمي لما زنا وأقيم عليه الحد سبه أحد الصحابة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تفعل، فوالله إني لأراه الآن يسبح في أنهار الجنة).
والكافر لا يسبح في أنهار الجنة، والمسلمون اليوم يكفر بعضهم بعضاً بالمعاصي.
قال: والتحقيق أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، أو يقال: إنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا يعطى اسم الإيمان المطلق.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: فاسق بكبيرته.
ولا يعطى اسم الإيمان المطلق، وإنما يعطى اسم مطلق الإيمان.
الفرق كبير جداً بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فمطلق الإيمان هو أصل الإيمان، وهو اليسير الذي يلزم من ثبوته الإسلام لمدعيه، فإذا قال أحد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فإنه يلزم مع هذه الشهادة التي يثبت له بها الإسلام أن يكون معه أصل الإيمان الذي استقر في القلب بصحة هذه الشهادة التي شهد بها، وأن يعتقد حقيقة أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
وأما كمال الإيمان فلا يكون إلا بالصلاة والصوم والزكاة والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر الطاعات.
والإنسان إذا دخل في الإيمان أو في الإسلام ومات قبل أن يتمكن من العمل فهو كامل الإيمان، فإذا أسلم شخص ونطق بالشهادتين، ثم فاضت روحه، فقد مات على كمال الإيمان وتمامه.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ولا ينسب إليه اسم الإيمان المطلق -أي: السارق والزاني والقاتل وشارب الخمر- إنما ينسب إليه أصل الإيمان.
فالإيمان الكامل لا يكون إلا بالعمل، وأما مطلق الإيمان فهو في أصل الإيمان، وهو يثبت للمرء بدخوله في الإسلام وإن لم يعمل.
وعندما ننفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة فإنما نقصد به الإيمان الكامل، أو الإيمان الوافي، ولو قصدنا بنفي الإيمان نفي أصله فإنه يلزمنا أن نخرجه من الإسلام.
قال: فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر الله به ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه.