[نفوذ علم الله السابق الأزلي]
قال الإمام: [فهذه الآيات ونحوها من القرآن الكريم مما يستدل به العقلاء من عباد الله المؤمنين على أن الله عز وجل خلق خلقاً من عباده أراد بهم الشقاء، فكتب ذلك عليهم في أم الكتاب].
وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ، فعلم الله تعالى أن عبده فلاناً بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤمن به، بل يبقى على اليهودية، فكتبه في الأشقياء في اللوح المحفوظ الذي لا يقبل النفي ولا الإثبات إلا ما أثبته هو سبحانه، فقال {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:٣٩]، {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:٣٩]، أي: في الكتب التي بأيدي الملائكة والحفظة الكرام، أما اللوح المحفوظ فإنه لا يمحى منه شيء كما لا يثبت فيه شيء.
فلما علم الله تعالى أن عبده فلاناً يكفر ويموت كافراً كتبه في اللوح المحفوظ، وهذه مرتبة من مراتب القدر وهي الكتاب، والمرتبة الأولى: مرتبة العلم الأزلي لله عز وجل، وأن الله تعالى كتب هذا العلم في اللوح المحفوظ، فهو لا يتبدل ولا يتغير، والعبد لا يدري ماذا كتب له، إذاً فماذا عليه؟ عليه أن يجتهد في طاعة الله عز وجل، ثم يتقرب إلى ربه بجناحي الخوف والرجاء، الخوف من الله تعالى ومن عذابه وناره، والرجاء في رحمته وجنته، وأن يقبض العبد على الإيمان والإسلام.
قال: [فختم على قلوبهم، فحال بينهم وبين الحق أن يقبلوه، وغشى أبصارهم عنه فلم يبصروه، وجعل في آذانهم الوقر فلم يسمعوه، وجعل قلوبهم ضيقة حرجة، وجعل عليها أكنة ومنعها الطهارة، فصارت نجسة؛ لأنه خلقهم للنار، فحال بينهم وبين قبول ما ينجيهم منها، فإن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:١٧٩].
وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:١١٩]]، أي: نفذ علم ربك السابق الأزلي، ففي فلان أنه مسلم، وفي فلان أنه كافر.
وانظر لحديث ابن مسعود الطويل في الصحيحين: (إن أحدكم يخلق في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك -ملك الأرحام- ويؤمر بكتب أربع: رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد)، كيف يكتب عليه الشقاء وهو لم يفعل ما يستوجب هذا الشقاء؟ الله تعالى علم أن هذا العبد إذا ولد وعاش فإنه لا يكون طائعاً ولا منقاداً، وإنما يكون شارداً عنيداً زنديقاً ملحداً كافراً، فلما علم الله تعالى ذلك أزلاً كتب هذا، بمعنى: سجله عليه بأن عبده سيفعل ذلك، وفي نهاية الأمر سيكون مآله إلى جهنم.
والله تعالى ليس بظالم لعبده مع هذا؛ لأن الله تعالى أفرغ عذره بإرسال الأنبياء، وإنزال الكتب التي فيها هدى ونور، ثم جعله محلاً للتكليف؛ لأن الصبي ليس محلاً للتكليف، والمجنون ليس محلاً للتكليف، والناسي ليس محلاً للتكليف.
لكن على أية حال هذه الموانع تجعل الله تعالى لا يحاسب العبد، فتصور طفلاً نشأ نصرانياً ومات، أو طفلاً مات قبل أن يبلغ، فأين هو في الآخرة؟ في الجنة، لذلك فأطفال المشركين قد اختلف فيهم أهل العلم، و (النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل عن أطفال المشركين قال: الله أعلم بما كانوا عاملين)، ولما سئل بعد ذلك قال: (هم في الجنة)؛ لأنه لم يبلغ سن التكليف حتى يعاقب ويحاسب.
وكذلك لو أن طفلاً نصرانياً مصاب بالجنون، ومات في سن الخمسين، فهل يحاسبه الله عز وجل؟ لا يحاسبه؛ لأن مناط التكليف قد ذهب عنه وهو العقل، فإذا كان الله تعالى أرسل الرسل وأنزل معهم الكتب وجعلك عاقلاً بالغاً مميزاً مكلفاً فلا بد أن يحاسبك حينئذ، وهذا من تمام عدل الله عز وجل ورحمته بعباده.