[تحذير حذيفة لأبي مسعود الأنصاري من التلون في دين الله]
قال: [وعن أبي مسعود الأنصاري أنه قال لـ حذيفة: أوصني! قال: إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله؛ فإن دين الله واحد].
أرأيتم هذا الكلام الجميل! فهذه وصية عظيمة جداً، فهو يقول له: أوصني يا حذيفة! فقال له: (إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف).
إننا الآن نجد إخوة أفاضل وملتحين وغير ذلك ولهم سنوات طويلة في حقل الدعوة، أو في حقل الالتزام، ثم بعد ذلك نفاجأ بأنه انزوى واختفى سنة، أو سنتين، أو ثلاث سنوات فلا يراه أحد، فنذهب لزيارته فإذا به قد حلق لحيته، وتخلص من كل مظهر للإسلام على بدنه بعد أن كان من أشد الناس.
وأذكر بهذه المناسبة عندما كنا في الأردن أن رضوان دعبول صاحب مؤسسة الرسالة -وهي مؤسسة كتبية كبيرة مشهورة- كان صاحب دين، وصاحب أياد بيضاء على طلاب العلم، وأنا عملت معه عامين في مؤسسة الرسالة تحت إشراف الشيخ شعيب الأرنؤوط في مكتب التحقيق بالأردن بعمان، وكان أحد إخواننا من مصر مقيماً معنا هناك في عمان، وكان يجهل كثيراً جداً على الشيخ الألباني في مجالسه، وأذكر أنه عندما قال الشيخ: إن بيع التقسيط حرام؛ قام عليه هذا الأخ ولم يبق من كلامه إلا أن ينطق بكلمة الكفر لشيخنا رحمه الله.
وكنت إذا ذهبت معه لنصلي في مسجد من المسجد ينطلق مسرعاً إلى الإمام قبل أن يكبر ويقول له: ماذا تقول في الإيمان؟ وماذا تقول في الإحسان؟ وماذا تقول في القرآن الكريم: هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ فكنت أقول له: يا أخي الكريم! لا يصح هذا، هذا الفعل من البدع، وهذا من الأهواء.
فيقول: لولا أني أعرفك لقلت فيك كلاماً غير ذلك، فكان معروفاً بشدته وحدته إلى أقصى حد، ودخل في باب التنطع من أوسع الأبواب.
فالشاهد من هذا: أني زرت مؤسسة الرسالة في عمان يوماً مع هذا الأخ، فقلت له: تعال نسلم على رضوان فقال على مضض: السلام سنة، سلم عليه، وأنا أعرف أن هذا الأخ غلطان؛ لأنه دائماً غلطان، فدخل في منتهى العبوس وسلم عليه، فقال له رضوان: ماذا بك يا شيخ فلان؟! لماذا أنت غضبان هكذا؟ هل أحد أغضبك؟ إن غضبت من الزوجة؟ نزوجك!! ويمازحه بخفة دم لا نهاية لها، فقال: اسمع يا رضوان! لا بد أن تعلم أنك من أهل النار، ولست من أهل الجنة، قال رضوان: لماذا؟! قال: أنت حليق، ولابس قميصاً وبنطلوناً، ولا تصلي جماعة في المسجد! فقلت له: إن هذا الكلام لا يصح، قال: وهل أنت تشك في أن هذا يكفر؟! قلت: لا.
أنا على يقين أن هذا لا يكفر، إن هذه المخالفات لا تكفر، بل هي معاص، فأنت الآن يا فلان! تقول بقول الخوارج، بل ربما لم يقل أحد على مثل هذه الأفعال الثلاثة من الخوارج: إنها كفر؛ فتكون قد أبعدت النجعة، وغاليت مغالاة لم يغالها الخوارج.
فغضب غضباً شديداً جداً وانصرف وتركني معه، فلم تكد تمر الأيام حتى أثبت لنا أنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فإما أن ترجع إلى أصل الدين، وهو الاعتدال والوسطية، وإما أن ترجع إلى ذروة الضلال، فلا تتمكن قط من الرجوع، وهذه سنة الله عز وجل في الخلق.
فمرت حوالي عشر سنوات وإذا بهذا الأخ يأتي إلى المسجد المجاور لبيته في شارع الهرم، وعند أن كبر الإمام ودعا دعاء الاستفتاح ثم قرأ الفاتحة سكت، ثم قرأ الآيات، وما إن فرغ من الصلاة إلا وقام عليه، وكاد أن يضربه ويفسقه ويبدعه؛ لأنه سكت بين الفاتحة وبين القراءة، وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم، والراجح: عدم السكوت، لكن لا يعالج الخطأ بمثل هذا، ثم انتظرني حتى أتيت في وقت متأخر من الليل وبات معي، فلما رأيته اندهشت؛ فقد كان لابساً ملابس ضيقة، و (كرفتة)، وحالقاً لحيته، وخلع العمامة، فقلت في نفسي: مادام أنك حكمت من قبل بأن هذا كفر لكني استحييت أن أكلمه.
ولما صلينا الفجر قال: أتيت لأن معي بعضاً من الكتب قد أعددتها للطباعة، ونريد أن نبيعها بما لك من صحبة مع بعض الناشرين، فقلت له: أنا أعرف ناشراً محترماً جداً، وهو الآن نازل في فندق الأمان، أنذهب إليه؟ فقال: لنذهب، قلت له: هو يصلي الفجر، ويقرأ الأذكار، ثم ينصرف إلى المعرض، فذهبنا إلى رضوان دعبول -وهو الذي كفره من قبل- فلما دخلنا عليه قال: أهلاً يا شيخ فلان! وما الذي ترتديه؟ ما الذي جرى يا شيخ فلان؟! ويشير إلى (الجلابية) التي يلبسها، ويقول: ما بك؟ قال: الضرورة، وتمر الأيام وقابلته على رصيف في محطة أتوبيس جالس، وبه من الغم ما الله به عليم، فقد جاء له جواب من مصر فيه: أن أباه قد تبرأ منه، وأمه تبرأت منه، وأخته تبرأت منه؛ فأشفقت عليه، وجلست بجانبه مخاطباً له: أنا أخوك فلان من مصر فجلس يسب مصر.
فالشاهد: أن الخصومات في دين الله عز وجل لها ضريبة ويحكم ذلك نيتك في نصرة دين الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، وأما إذا دخلت في طريق مغلق فإن هذا لا ينفعك بين يدي الله عز وج