للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث أبي بكرة في كيفية التصرف مع الفتن العامة]

قال: [وعن أبي بكرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ستكون فتن، ثم تكون فتنة؛ ألا فالماشي فيها خير من الساعي إليها، والقاعد فيها خير من القائم فيها، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، فإذا نزلت فمن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، ومن كانت له إبل فليلحق بإبله)].

انظر إلى هذا الحديث وجماله وروعته، يقول: إذا نزلت الفتنة العامة وأنت صاحب غنم؛ فانشغل بغنمك، تصور لو أن فتنة عامة نزلت الآن -نسأل الله السلامة- فماذا يكون؟ كل الناس يدعون أعمالهم ويتحولون للتفكير في هذه الفتنة، مع أنهم غير مطالبين بهذا، إنما المطالب بهذا هم العلماء.

الآن إذا أتيت لأجهل الجهلاء، وهو شخص راسب في الابتدائية، وكل ما في الأمر أنه إنسان ملتح، ولابس ثوباً أبيض، فإذا نزلت فتنة عامة أو خاصة لا فرق في ذلك عنده؛ لأنه لا يميز بين الخاصة والعامة، لكنه يجعل نفسه مسئولاً أن يفتي في هذه النوازل؛ ولذلك يقول العلماء: لو سكت الجاهل لقل الكلام، لكن إذا نزلت نازلة تجد فيها ألف فتوى في كل حي؛ لأن كل واحد يقول ما يريحه، كما لو سئل عالم من العلماء في مسألة وحوله طلاب، لوجدت أن هذا الطالب يفتي فيها برأيه، وذاك يفتي فيها برأيه، والثالث برأي ثالث، وكل واحد من الموجودين -إلا من رحم الله- يفتي فيما سمع من فلان بفتوى معينة على حسب اجتهاده.

والعالم لم يتكلم بعد، ينظر إليهم ويتعجب من سوء الأدب، مندهش من هذه الأخلاق الرديئة، والسؤال إنما وجه إلى العالم، والذي أجاب مجموع الطلاب، أمر عجيب جداً، أخلاق لا تتناسب حتى مع اليهود والنصارى، فضلاً عن المسلمين، فضلاً عن طلاب علم.

فينبغي على الجميع أن يتأدب بآداب العلم وأهله قبل أن يطلب العلم، فكم من إنسان طلب العلم وفقد الأدب، ففقد معه كل شيء.

قال عليه الصلاة والسلام عن هذه الفتن: (القاعد فيها خير من القائم، والماشي خير من الساعي، والمضطجع خير من القاعد).

كأنه يحض الناس جميعاً ألا يلجوا في هذه الفتن، وكلما تأخر المرء كان أفضل من غيره الذي تقدم وولج في هذه الفتن، ونصح كل واحد أن يلحق بعمله، وإن لم يكن له عمل إلا على غنمات أو إبل، أو أرض، أو زرع؛ فلينشغل بها ولا علاقة له بهذا.

تصور أن هذا الحديث يوجه إلى أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه، أو يوجه إلى كبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، لكن هذا تشريع عام للأمة كلها.

قال: [(فقال له رجل من القوم: يا نبي الله! جعلني الله فداك، أرأيت من ليس له غنم ولا أرض ولا إبل؟ قال: فليأخذ سيفه، ثم ليعمد إلى صخرة، ثم ليدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة)].

شخص ليس عنده غنم ولا إبل ولا زرع، يعني: جالس يفكر بالنوازل والبلاء، ماذا يصنع يا رسول الله؟! قال: يأخذ سيفه الذي أعده، ثم يأتي إلى صخرة قوية ويضرب بحد سيفه هذه الصخرة حتى يفسد سيفه؛ لأنك لو أتيت بالسكين وطفقت تضرب به البلاط أو الحائط بحده الذي يقطع؛ فإنه لا بد أن تكسر السكين؛ ولذلك قال: يأخذ سيفه فيضرب به الصخرة أو الحجر حتى يفسد لينجو حينئذ؛ لأن العرب ما كان يدخلون في قتال إلا ومعهم سيوفهم ورماحهم، وغير ذلك من آلات الحرب التي أعدوها لهذا الغرض.

إن الفتنة أمر عجيب جداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: أعدوا لها ما استطعتم، وإنما قال: اكسر سيفك والزم بيتك؛ هذا هو فقه الفتن، أن ينجو الإنسان منها بقدر الطاقة ويهرب منها.

أيها الأخ الكريم! لك أن تتصور أن الفتنة هي عبارة عن سبع ضارٍ لم يطعم منذ أيام أو أسابيع، ثم أطلقوا هذا السبع عليك، فماذا يكون عملك؟! فينبغي أن يكون فرارك من الفتنة أعظم من فرارك من هذا السبع؛ لأن السبع مهما أكل سيأكل بدنك، أما الفتنة فإنها تأكل قلبك، وتأكل دينك، وهذا أخطر من أكل بدنك؛ لأنك لو مت مع سلامة قلبك، أو سلامة دينك؛ لكنت من الناجين.

أما لو مات دينك، ومات قلبك وأنت حي، فأنتم تعلمون أن أكثر أهل الأرض على هذا النحو: أجسام كالبغال، وقلوب حمقى مغفلين، لا يحلون حلالاً، ولا يحرمون حراماً، لا يعرفون لماذا خلقوا؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ: [(ثم لينج إن استطاع النجاة، اللهم هل بلغت؟! اللهم هل بلغت؟! اللهم هل بلغت؟! قال: يا رسول الله! جعلني الله فداك، أرأيت إن أخذ بيدي مكرهاً حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إلى إحدى الفئتين، فيحذفني رجل بسيفه فيقتلني، فماذا يكون من شأني؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: يبوء بإثمك، فيكون من أصحاب النار)].

يقول: يا رسول الله! تصور لو أني لزمت بيتي وكسرت سيفي كما أمرتني، وأتى رجل وأكرهني، وأخذني من يدي حتى وضعني في الصف وأنا كاره، فأصابني سهم فقتلني، فماذا علي؟ قال: ليس عليك شيء، قال: فماذا على الذي أكرهني؟ قال: (يبوء بإثمك؛ فيكون من أصحاب النار).