[آثار عن السلف في بيان سابق علم الله في عباده]
قال: [وقال أبو سليمان الداراني: والله لقد أنزلهم الغرف قبل أن يطيعوه، وأدخلهم النار قبل أن يعصوه]، أي: أن الله تعالى علم أهل الجنة وعلم أهل النار، فأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار قبل أن يخلقهم، وهذا يدل على سابق علم الله الأزلي في الخلق.
قال: [وقال أبو سليمان أيضاً: كيف يخفى على الله عز وجل ما في القلب ولا يكون في القلب إلا ما ألقي فيه، فكيف يخفى عليه؟ وقال: أنا بمنزلة الحجر إن لم أحرك لم أتحرك]، أي: لابد أن يتصرف في الذي خلقني، وهو الله سبحانه وتعالى.
قال: [وعن الخشني قال: ما في جهنم واد ولا دار ولا مغار ولا غل ولا قيد ولا سلسلة إلا اسم صاحبه عليه مكتوب قبل أن يخلق -أي: أن هذه العقوبات كلها مكتوب عليها أنه يغل بها فلان، ويسلسل بها فلان، ويقيد بها فلان- قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان فبكى، ثم قال: ويحك؛ فكيف به لو قد اجتمع عليه هذا كله، فجعل الغل في عنقه، والقيد في رجليه، والسلسلة في عنقه، وأدخل النار، وأدخل الدار، وجعل في المغار؟].
أي: فكيف بك لو اجتمع هذا كله عليك؟! نسأل الله السلامة والعافية.
قال: [قال أحمد بن أبي الحواري لـ أبي سليمان الداراني: من أراد الحظوة -أي: الرفعة والمكانة- فليتواضع في الطاعة، وقال لي: ويحك وأي شيء التواضع؟ إنما التواضع في ألا تعجب بعملك، وكيف يعجب عاقل بعمله، وإنما يعد العمل نعمة من الله عز وجل ينبغي أن يشكر الله عليها ويتواضع له، إنما يعجب بعمله القدري الذي يزعم أنه يعمل، فأما من زعم أنه يستعمل فكيف يعجب؟!]، فالله تعالى هو الذي قدر لك العمل، وأعانك عليه.
قال الشيخ ابن بطة: [فكل ما قد ذكرته لكم يا إخواني رحمكم الله! فاعقلوه وتفهموه، ودينوا لله به، فهو ما نزل به الكتاب الناطق، وقاله النبي الصادق، وأجمع عليه السلف الصالح والأئمة الراشدون من الصحابة والتابعين، والعقلاء والحكماء من فقهاء المسلمين، واحذروا مذاهب المشائيم القدرية الذين أزاغ الله قلوبهم -فالله تعالى هو الذي يزيغ القلوب- فأصمهم وأعمى أبصارهم، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً؛ حتى زعموا أن المشيئة إليهم، وأن الخير والشر بأيديهم، وأنهم إن شاءوا أصلحوا أنفسهم، وإن شاءوا أفسدوها، وأن الطاعة والمعصية إليهم، فإن شاءوا عصوا الله وخالفوه فيما لا يشاؤه ولا يريده؛ حتى ما شاءوا هم كان، وما شاء الله لا يكون، وما لا يشاءوه لا يكون، وما لا يشاؤه الله يكون.
فإن القدري الملعون لا يقول: اللهم اعصمني -القدري لا يدعو بهذا قط، بل ينكر على من دعا بهذا- اللهم وفقني، ولا يقول: اللهم ألهمني رشدي، ولا يقول: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:٨]، ويقول: إن الله لا يزيغ القلوب، ولا يضل أحداً، ويجحد القرآن، ويعاند الرسول عليه الصلاة والسلام، ويخالف إجماع المسلمين، ولا يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله -بل يقول: الحول والقوة بيديه- ولا يقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وينكر ذلك على من قاله، ويزعم أن المشيئة إليه، والحول والقوة بيديه، وأنه إن شاء أطاع الله وإن شاء عصى، وإن شاء أخذ وإن شاء أعطى، وإن شاء افتقر، وإن شاء استغنى.
وينكر أن يكون الله عز وجل خالق الشر، وأن الله شاء أن يكون في الأرض شيء من الشر، وهو يعلم أن الله خلق إبليس، وهو رأس الشر، وأن الله علم ذلك منه قبل أن يخلقه، والله تعالى يقول: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:٢]-إذاً: هو الذي خلق الشر- وهو الذي يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦]-أي: من خير وشر- ويقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:٢]-إذاً: هو الذي خلق الإيمان وخلق الكفر- فالقدري يجحد هذا كله، ويزعم أنه يعصي الله قسراً، ويخالفه شاء أم أبى].
فهذا دين القدرية، وهو بلا شك كفر بواح.