للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون)]

قال: [وعن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: رب ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، قال: فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى أن تقوم الساعة.

وعنه في قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٩] قال: ألستم قوماً عرباً؟ هل تكون نسخة إلا من كتاب؟ وعنه في قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٩] قال: ألستم قوماً عرباً أو عُرْباً؟ هل تكون نسخة إلا من أصل كتاب قد كان قبل؟]، أي: قد كان من قبل، وهذا فيه إثبات أن القلم كتب كل شيء.

قال: [وعنه في قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٩] قال: إن أول ما خلق الله عز وجل القلم، ثم النون وهي الدواة، ثم خلق الألواح، فكتب الدنيا وما يكون فيها حتى تفنى من كل خلق مخلوق، أو عمل معمول من بِر أو فجور، وما كان من رزق حلال أو حرام، ومن كل رطب ويابس، ثم ألزم كل شيء من ذلك شأنه دخوله في الدنيا وبقاءه فيها، كم إلى كم شاء، ثم وكل بذلك الكتاب ملكاً، ووكل بالخلق ملائكة، فتأتي ملائكة الخلق إلى ملائكة الكتاب فينسخون ما يكون في يوم وليلة مقسوماً على ما وكلوا به، وتأتي ملائكة الخلق فيحفظون الناس بأمر الله، ويسوقونهم إلى ما في أيديهم من تلك النسخ، فإذا انتفت النسخ عن شيء لم يكن هاهنا بقاء ولا مقام.

قال: فقال رجل لـ ابن عباس: ما كنا نرى هذا إلا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة، فقال: ألستم قوماً عُرْباً؟ {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٩]، هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب؟].

مراد ابن عباس: أن اللوح المحفوظ أو الكتاب المكنون الذي كُتب بقلم القدرة، وهو أول المخلوقات، وهذا القلم كتب نسخة لا زيادة فيها ولا نقص، وهذا المكتوب مقدر لكل مخلوق خلقه الله عز وجل، والملائكة الذين يحفظونك بأمر الله، الموكلون بك وبأعمالك ورزقك وأجلك يذهبون إلى الملائكة القائمين على الكتاب الأول في كل يوم وليلة، فتقول ملائكة الحفظ لملائكة الكتاب: انسخوا لنا عمل العبد اليوم، ورزق العبد اليوم، فتستنسخ ملائكة الحفظ أعمال العبد في اليوم الواحد، فملائكة الرزق ينسخون الرزق، وملائكة العمر ينسخون العمر، وملائكة العمل ينسخون العمل، حتى إذا ذهبوا في يوم ليستنسخوا ما هو مقدر لك في يومك وليلك لا يجدون في كتاب الله شيئاً، أي: انقطع الكتاب، وهذا الانقطاع يدل على نهاية العمر ونهاية الأجل.

وهذا الكلام من علم الغيب، فلا يمكن إلا أن يكون مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وبعض أهل العلم يقول: هذا الكلام من ابن عباس مع صحة السند له حكم المرفوع، يعني: هو موقوف له حكم المرفوع؛ لأن هذا الكلام لا يعلمه أحد إلا من طريق الصادق المصدوق المعصوم عليه الصلاة والسلام.

وبعضهم يقول: لم يسمع ابن عباس هذا من النبي عليه الصلاة والسلام، وليس له حكم المرفوع؛ لأن الشرط في اعتبار الكلام في أمر الغيب موقوفاً في حكم المرفوع: ألا يُعلم أن صاحبه كان يتلقى عن أهل الكتاب، وابن عباس في الحقيقة كان ممن يتلقى عن أهل الكتاب، فقالوا: لعل ابن عباس أخذ هذا من أهل الكتاب، والله تعالى أعلم.

قال: [وعن ابن عباس قال: إن أول ما خلق الله عز وجل القلم خلقه عن هجاء]، يعني: خلقه للكتابة، فقال: قلم! فتصور قلماً من نور ظله ما بين السماء والأرض.

وهذا كلام نقول فيه ما قلناه آنفاً.

قال: [فقال: اجر في اللوح المحفوظ.

قال: يا رب! بماذا؟ قال: بما يكون إلى يوم القيامة، فلما خلق الله عز وجل الخلق وكل بالخلق حفظة يحفظون عليهم أعمالهم، فإذا كان يوم القيامة عرضت عليهم أعمالهم فقيل: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٩]-أي: في اللوح المحفوظ- فيعارضون بين الكتابين فإذا هما سواء].

يعني: يضعون الكتاب الذي في أيدي الحفظة بجوار كتاب العبد في اللوح المحفوظ، فيجدون أن الكتابين بالضبط منطبقان على بعض.

وهذا يدل على أنه لا زيادة فيها أو نقص؛ لأنها نسخة طبق الأصل؛ ولذلك يقال: صورة طبق الأصل، يعني: ليس فيها زيادة ولا نقصان، فلا يصح أن تختم البطاقة بعد أن تصورها، فيكون الأصل غير مختوم والصورة مختومة، إذاً: هنا لا توجد مطابقة ولا معارضة، وصحة المعارضة هي الموافقة بين المنسوخ والمنسوخ منه.