[أثر ابن عباس في معرفة اليوم الذي نزلت فيه (اليوم أكملت لكم دينكم)]
قال: [عن عمار مولى بني هاشم قال: قرأ ابن عباس: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣]، وعنده رجل من أهل الكتاب، فقال: لو علمنا في أي يوم نزلت هذه الآية جعلناه عيداً، فقال -أي: ابن عباس - لقد نزلت يوم عرفة، يوم الجمعة].
[قال عبيد الله بن محمد: لقد علم العقلاء من المؤمنين ومن شرح الله صدره ففهم هذا الخطاب من نص الكتاب وصحيح الرواية بالسنة، أن كمال الدين وتمام الإيمان إنما هو بأداء الفرائض والعمل بالجوارح، مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، مع القول باللسان والتصديق بالقلب] هذا هو تعريف الإيمان عند أهل السنة.
فقوله: (لقد علم العقلاء من المؤمنين) الذين هم أهل السنة، بعد أن شرح الله صدورهم فهموا الخطاب من نص كتاب الله عز وجل، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام التي صحت عنه، أن تمام الدين وتمام الإيمان إنما هو بثلاثة أشياء: الأول: أداء الفرائض والعمل بالجوارح مثل: الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، مع القول باللسان والتصديق بالقلب، فقد جمع لنا هنا أصول الإيمان التي هي معتقد القلب، أي: عمله قولاً وفعلاً، ثم قول اللسان وعمل الجوارح والأركان.
ومراد ابن بطة هنا إثبات أن عمل الجوارح من الإيمان، للرد على المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
ثم قال: [وعلموا أيضاً المعنى الذي أنزلت فيه هذه الآية، ومراد الله تعالى فيها، واليوم الذي أنزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبان لهم -أي: لأهل السنة- كذب من افترى على الله، وعلى كتابه وعلى رسوله، وعلى صحابته والتابعين، والعقلاء من علماء المسلمين، فتأول هذه الآية بغير تأويلها، وصرفها إلى غير معانيها، وزعم أنها نزلت في غير المعنى الذي أراد الله بها، وفي غير اليوم الذي أنزلها فيه، فآثر هواه، وباع آخرته بدنياه، ويح من كان دينه هواه، فقد بارت بضاعته، وخسرت صفقته، خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين].
هذه مقدمة رائعة جداً في إثبات أن الإيمان قول وعمل، قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان والجوارح والأركان، فمحل الإيمان القلب واللسان لمن كان قادراً على ذلك، أي: على النطق، والجوارح كذلك.
اختلف العلماء في تعلق الإيمان بالعمل، فأهل السنة والجماعة على أن العمل من الإيمان؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وستون -أو بضع وسبعون- شعبة، أعلاه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
لو نظرنا في هذا الحديث لوجدنا قوله كما في مسلم: (أعلاه لا إله إلا الله) أي: أعلاه شهادة أن لا إله الله، والشهادة عمل اللسان، فالمرء يشهد بلسانه، فلو أن امرأً شهد بلسانه بهذه الشهادة ولم يعتقد قلبه صحة هذه الشهادة، فإنه يكون منافقاً بالإجماع.
إذاً: هذه الشهادة إن تلفظ بها الإنسان ولم يكن لها رصيد في القلب لم يكن مؤمناً، بل كان منافقاً، وحينئذ نقول: إن هذه الشهادة لا بد لها من النطق إذا كان صاحبها قادراً على النطق، وإلا فتكفيه الإشارة، أي: الإشارة إلى السماء، كما في حديث الجارية: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها: (أين الله؟) وفي رواية: (فأشارت إلى السماء) أي: جهة العلو والارتفاع لله عز وجل، قال: لو لم يكن لهذه الكلمة التي صدرت على اللسان رصيد في القلب لا تقبل من قائلها إلا فيما يتعلق بأحكام الدنيا.
أما إذا كان يعتقد صحة هذه الكلمة بقلبه، ولم ينطق بها مع قدرته على النطق، فهل يثبت له الإيمان أو الإسلام؟ أنتم تعلمون أن أبا طالب كان يؤازر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يحوطه من جميع جوانبه، وحينئذ لما صرح أبو طالب في غير ما مرة أن ابن أخيه على الحق، وإنما الذي يمنعه من الدخول فيه قوميته، كان أبو طالب رجلاً قومياً يضمر القومية العربية، فمنعه ذلك من أن يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لا يقال: صبأ أبو طالب، وترك دين آبائه وأجداده؛ ولذلك لما علم النبي عليه الصلاة والسلام منه إيمانه الجازم بصحة رسالته، قال: (يا عماه! قلها كلمة أشفع لك بها عند ربي، فقال: لو لم تعيرني بها العرب لقلتها) فهو يؤمن بها في قلبه، لكنه لم يتلفظ بها، فهل تنفعه حينئذ؟ أنا الآن ضربت صورتين، الأولى: أنه تلفظ بها بلسانه ولم يعتقدها بقلبه، فهذا منافق، والمنافق كافر معلوم، ومن اعتقدها بقلبه ولم يتلفظ بها بلسانه فلا يقبل ذلك منه، بل هو باق على أصل كفره في الدنيا والآخرة، فهاتان صورتان لإثبات أن الإيمان لا بد فيه من اعتقاد القلب والنطق باللسان لمن كان قادراً على ذلك.
يأتينا دور العمل، فكلمة التوحيد لها شروط ومقتضيات، سنتعرض لها بإذن