[مذهب الناس في مفهوم قول النبي عليه الصلاة والسلام:(فحج آدم وموسى)]
وبعد هذه المقدمة فقد اختلف الناس في فهم هذا الحديث إلى مذاهب شتى؛ وأهل العلم لهم نظر آخر ثاقب لهذا الدليل، واستنباط الأحكام والفوائد منه، ولهم في ذلك مذاهب: المذهب الأول: أنهم قالوا: إنما حجه لأن آدم أبوه، يعني: يريدون أن يقولوا: عيب على موسى وهو ابن آدم أن يحاجج أباه، وهذا لا يتناسب مع منزلة النبوة، فحجه كما يحج الرجل ابنه، وهذا الكلام لا محصل فيه ألبتة، وليس له قيمة في التحقيق العلمي فهل مرتبة الأبوة تجعل الحق باطلاً، والباطل حقاً؟! لا؛ لأن حجة الله يجب المصير إليها مع الأب كانت أو الابن، أو العبد، أو السيد، أو المرأة، أو الرجل، ولو حج الرجل أباه بحق وجب المصير إلى الحجة، وعليه فهذا الرأي باطل من جهة التخصيص العلمي؛ لأنه يجب المصير إلى الحجة والدليل، سواء كانت مع الأب، أو مع الابن.
المذهب الثاني: قالوا: إنما غلب آدم موسى لأن الذنب كان في شريعة، واللوم في شريعة أخرى، فالذنب وقع من آدم في شريعة آدم، واللوم وقع من موسى في شريعة موسى، فقالوا: آدم غلب موسى لأن الذنب وقع في شريعة آدم، واللوم وقع في شريعة موسى، وهذا أيضاً أفسد من الذي قبله، إذ لا تفسير بهذا للحجة بوجه من الوجوه، وهذه الأمة تلوم الأمم المخالفة كلها، يعني: أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام تلوم جميع الأمم السابقة لها، واللوم هذا يقع في شريعتنا والذنب قد وقع في الشرائع السابقة، ولذلك لما أخرج البخاري قال:(يجيء بنوح يوم القيامة فيقول الله تعالى له: يا نوح هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب! فيؤتى بأمته فيسألهم: هل بلغكم نوح؟ قالوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيؤتى بنوح مرة أخرى فيقول الله تعالى: يا نوح من يشهد معك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: فذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:١٤٣])، إذن اللوم يقع يوم القيامة في دار أخرى لا في شريعة أخرى، فيقع بعد الحياة والممات والبعث ويوم القيامة وفي عرصات القيامة، والذنب قد وقع في الدنيا، فلا بأس أبداً أن يقع الذنب في شريعة واللوم في شريعة أخرى، ولذلك هذا المذهب كسابقه من المذاهب الفاسدة.
المذهب الثالث: قالت فرقة ثالثة: إنما حجه لأنه قد كان تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا يصح أن يوجه إليه اللوم؛ لأنه قد تاب، والذي يتوب من الذنب كأنه لم يفعله أصلاً، إذاً فعلام اللوم؟ وآدم هنا ما احتج بالقدر إلا بعد التوبة لا قبل التوبة، وهذا وإن كان أقرب مما قبله فلا يصح لثلاثة أوجه، ذكرها الإمام ابن القيم في كتاب: شفاء العليل، يقول: الوجه الأول: أن آدم لم يذكر ذلك الوجه، ولا جعله حجة على ابنه، أي: أن آدم لم يقل لموسى: أتلومني على ذنب قد تبت منه.
الوجه الثاني: أن موسى أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره سبحانه أنه قد تاب على فاعله، واجتباه بعده وهداه، فإن هذا لا يجوز لآحاد المؤمنين أن يفعله فضلاً عن موسى كليم الرحمن سبحانه وتعالى.
الوجه الثالث: أن هذا يستلزم إلغاء ما علق به النبي صلى الله عليه وسلم وجه الحجة، واعتبار ما ألغاه فلا يلتفت إليه، وأنا شخصياً لست مقتنعاً بهذه الأوجه الثلاثة، وابن القيم عليه رحمة الله تبعاً لشيخه ابن تيمية عليه رحمة الله يقول: هذا مذهب مرجوح أو لا يصح، وذكر الثلاثة الأوجه، وأنا شخصياً ليس عندي أدنى قناعة ولا بوجه واحد، لكن أرجوا أن تذكروا هذا المذهب؛ لأننا سنحتاجه بعد ذلك.
المذهب الرابع قالوا: إنما حجه لأنه لامه في غير دار التكليف، وقد قلنا فيما مضى: إن موسى عليه السلام طلب من ربه أن يحيي له آدم فيكلمه، فأحيا الله تعالى آدم فكلمه فلامه على ذلك، وفي أثناء الكلام لامه على الذنب، أو على المعصية التي جعلته يخرج من الجنة وتخرج ذريته إلى الأرض، فقالوا: هذا لوم ليس في دار التكليف، والأصل أن المرء يلام في دار التكليف، وإرجاع آدم وإحياؤه مرة أخرى للمحاجة والمناظرة بينه وبين ولده موسى عليه السلام لم تكن بالنسبة لآدم دار تكليف، ولو لامه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى عليه، قال ابن القيم: وهذا أيضاً فاسد من وجهين: الأول: أن آدم لم يقل له: في غير دار التكليف، وإنما قال:(أتلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق)، فلم يتعرض للدار، وإنما احتج بالقدر السابق.
الثاني: أن الله سبحانه وتعالى يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف، فيلومهم بعد الموت، ويلومهم يوم القيامة، والشاهد أن ابن القيم عليه رحمة الله أبطل هذا المذهب كذلك.
المذهب الخامس: إنما حجه لأن آدم شهد الحكم وجريانه على الخليقة، وتفرد الرب سبحانه بربوبيته، وأنه لا تحرك ذرة إلا بمشيئته وعلمه، وأنه لا راد لقضائه وقدره، وأنه ما شاء كان، وما لم