[كلام الإمام أحمد في الاستثناء]
فإذا كان كمال الإيمان وتمامه مرتبطاً بالعمل الذي هو الأمر والنهي، وأنا غير متأكد من قيامي بواجب الأمر والنهي، ففي هذه الحالة إذا سئلت عن كمال الإيمان وتمامه أكل الأمر إلى الله عز وجل وأقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولذلك قال رجل لـ أحمد بن حنبل: قيل لي: أمؤمن أنت؟ فقلت له: نعم، وهل الناس إلا مؤمن وكافر؟ فغضب أحمد بن حنبل غضباً شديداً وقال: هذا كلام الإرجاء؛ لأن الله تعالى قال: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:١٠٦]، وذلك لما ذكر الله تعالى أهل الإيمان وأهل الكفر ذكر فئة ثالثة فقال: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} أي: يوم القيامة يفصل بينهم.
فإذا كان الناس مؤمناً وكافراً فليس هناك داع لهذا الفريق الثالث الذي يرجئ أمره إلى الله عز وجل يوم القيامة، وهم أصحاب الكبائر، فليس بمؤمن كامل الإيمان، وليس بكافر بكبيرته، ولذلك أصحاب الكبائر مؤمنون بإيمانهم فساق بكبائرهم، وفي يوم القيامة إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم.
إذاً مشيئة الله تبارك وتعالى في أهل الكبائر في الآخرة، ومعنى (مرجون): مؤخرون.
وبالتالي ليس الناس مؤمناً وكافراً فحسب، بل مؤمن وفاسق وكافر.
قال: إن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لنفسه بما لا يعلم.
أما قول أحمد قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:١٠٦] من هؤلاء؟ ثم قال أحمد: أليس الإيمان قولاً وعملاً؟ قال الرجل: بلى، قال: فجئنا بالقول؟ قال: نعم، قال: فجئنا بالعمل؟ قال: الأمر لله، أي: ومن يجرؤ أن يأتي يوم القيامة ويقول: أنت أمرتني بالقول والعمل، ووعدتني على القول والعمل بالجنة، وأنا قد آمنت بالله، وما كنت أمل ولا أكل من قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكنت أصوم وأصلي وأزكي، فهيا أدخلني الجنة الآن! هل أحد يستطيع أن يقول هذا لله؟ مع أن الله وعد بأن من قال وعمل دخل الجنة، لكن هل هذا يلزم الله تعالى؟ لا يلزمه؛ لأن العبد لا يزعم أنه قد عمل، وإن زعم أنه قد قال؛ فلأن القول محقق ولا يقبل منه إلا إذا كان معه أصل الإيمان، أما العمل فلا يسع إنساناً أن يزعم أنه قد حقق كمال الإيمان وتمامه بتمام العمل وكماله.
قال: فهل جئنا بالعمل؟ قال الرجل: لا، قال: فكيف نعيب أن يقول: إن شاء الله ويستثني؟ وقال أبو داود: أخبرني أحمد بن أبي شريح أن أحمد بن حنبل كتب إليه في هذه المسألة: أن الإيمان قول وعمل، فجئنا بالقول ولم نجئ بالعمل، فنحن نستثني في العمل.
إذاً أنا حينما أقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فإني أستثني في العمل.
قال: والقبول متعلق بفعله كما أمر، فكل من اتقى الله في عمله ففعله كما أمر، فقد تقبله الله منه، لكن هل العمل يجزم بالقبول؟
الجواب
لا.
وعن أبي طالب قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: لا نجد بداً من الاستثناء؛ لأنهم إذا قالوا: مؤمن، فقد جاء بالقول، وإنما الاستثناء بالعمل لا بالقول.
وعن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه قال: سمعت أبا عبد الله يقول: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان: أن الإيمان قول وعمل، فقد جئنا بالقول ونخشى أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبني أن يستثنى العبد في الإيمان فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
وسمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، الاستثناء هاهنا على أي شيء يقع؟ قال: على البقاع، لا يدري أيدفن في الموضع الذي سلم عليه أم في غيره، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام لأهل البقيع: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، ولم يدفن في البقيع، وإنما دفن في الموضع الذي مات فيه، فعلم أن أحمد وغيره من السلف كانوا يجزمون ولا يشكون في وجود ما في القلب من الإيمان في هذه الحال، ويجعلون الاستثناء عائداً إلى الإيمان المطلق المتضمن فعل المأمور، ويحتجون أيضاً بجواز الاستثناء فيما لا يشك فيه، وهذا وإن كنا لا نشك فيما في قلوبنا من الإيمان، فالاستثناء فيما يعلم وجوده قد جاءت به السنة؛ لما فيه من الحكمة.
قال: وعن محمد بن الحسن بن هارون قال: سألت أبا عبد الله عن الاستثناء في الإيمان؟ فقال: نعم، الاستثناء على غير معنى الشك، مخافة واحتياطاً للعمل، وقد استثنى ابن مسعود وغيره، وهذا مذهب الثوري، قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَا