[اختلاف الفقهاء يقال فيه: أخطأت، لا كفرت]
قال: [فاختلاف الفقهاء يا أخي -رحمك الله- في فروع الأحكام, وفضائل السنن؛ رحمة من الله بعباده, والموفق منهم مأجور, والمجتهد في طلب الحق إن أخطأه غير مأزور, وهو يحسن نيته, وكونه في جملة الجماعة في أصل الاعتقاد والشريعة مأجور على ذلك، وإن تأول متأول من الفقهاء مذهباً في مسألة من الأحكام خالف فيها الإجماع، وقعد عنه فيها الإتباع؛ كان منتهى القول بالعتب عليه: أخطأت].
إذاً يقال للمخالف: أخطأت، إذا خالف مسألة مجمع عليها، ولا شك أن مخالفة الكتاب والسنة أولى في تخطئته من مخالفته للإجماع؛ لأن الإجماع لا ينعقد إلا بدليل أو أمارة من الكتاب والسنة، وحينئذ لو خالف الكتاب والسنة فإثبات خطؤه أولى من مخالفته للإجماع، وفي كل قد أخطأ.
والصورة الثانية من صور الخلاف: لو أن العلماء اختلفوا في الرأي اختلافاً مسوغاً فهل يقال في هذا الخلاف: إنه ليس برحمة؟ لا، بل هو رحمة، وهو خلاف رأي.
ولذلك إذا اعتقدت أن الخلاف صواب وخطأ؛ فلا بد أنك ستقف في كل يوم على عشرات المسائل التي وقع فيها الاختلاف بين أهل العلم، ويترجح لديك اليوم ما تبطله أنت غداً، فمثلاً: مسألة: هل قراءة الفاتحة واجبة على المأموم في الصلاة الجهرية أم لا؟ فمنهم من يعتقد وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام، ومنهم من يعتقد أن قراءة الإمام لهم قراءة، فهذا الخلاف ليس مرده إلى الهوى، وإنما إلى الدليل، فإذا كان مرد الخلاف إلى فهم الدليل فلا يقال للمخالف فيما ذهب إليه: أخطأت، وإنما كل واحد يلزمه العبادة بما ترجح لديه إن كان طالب علم.
فأنت باعتبارك طالب علم لك نظر وبصيرة في الدليل، وقد أتيت بأصل المسألة وأدلتها، ونظرت في أقوال الفقهاء فترجح لديك وجوب القراءة، فلا يسعك بعد أن ترجح لديك وجوب قراءة الفاتحة أن تترك القراءة خلف الإمام، بل تبطل صلاتك لتركك ركناً متعمداً، وإن ترجح لديك بالدليل أن قراءة الإمام تجزئ عن قراءة المأموم فلا يسعك القراءة، فإن قرأت فهو سنة بلا شك، لكن لو أنك تركت القراءة لاعتقادك أن قراءة الإمام تحل محل قراءتك لا تبطل صلاتك.
فلو أن اثنين يقفون في الصف، أحدهما: يعتقد الوجوب، والثاني: يعتقد عدم الوجوب، وكلاهما أدرك الإمام على حال معين، فهذا يقوم ويأتي بركعة، وذاك لا يأتي بركعة، وهذا هو خلاف الاجتهاد الذي بني على دليل واحد، أو على أدلة معناها واحد؛ لأنك طالب علم، فلا يسعك أن تقلد، بل لا تبرأ ذمتك إلا بالنظر في الدليل، والعمل بما ترجح لديك، وهو دين الله تعالى في حقك.
وأما العامي الذي ليس له نظر، ولا يعرف فهم الدليل؛ فهذا يلزمه بل يجب عليه تقليد مفتيه إذا غلب على ظنه أن هذا المفتي مستقيم، أي: إذا غلب على ظنه أن هذا الرجل صاحب صلاح ودين وعلم، فالعامي لا يعرف ما هو الدليل، ولا من أين أتى الشيخ بهذا الكلام، ولا كيف ترجح لك هذا، فهو عامي لا يعرف شيئاً، فهو يقلد هذا المفتي.
ولذلك انظر إلى الخليفة لما أرسل إلى الإمام مالك وقال له: مر طلابك أن ينسخوا من الموطأ نسخاً حتى أرسل بها إلى الأمصار؛ ليعملوا بها، قال: لا تفعل يا إمام المسلمين! فإنهم قد بلغهم من العلم ما لم يبلغنا، وبلغنا ما لم يبلغهم.
فدل هذا على أن كلاً يعمل بما بلغه.
والعلماء قالوا: إن هذه من أعظم مناقب الإمام مالك، وليست منقبة عادية، إذ إن الإمام مالك يسمح بوقوع الاختلاف في الفروع من هنا وهناك، وأن كلاً يعمل بما بلغه من علم.
قال موسى الجهني: كان إذا ذكر عند طلحة الاختلاف قال: لا تقولوا: الاختلاف، ولكن قولوا: السعة.
أي: أن الاختلاف يقع من الفقهاء، وهو باب من أبواب السعة، وباب من أبواب الرحمة.
قال الشيخ: [فالإصابة في الجماعة توفيق ورضوان، والخطأ في الاجتهاد عفو وغفران، وأهل الأهواء اختلفوا في الله، وفي الكيفية، وفي الأبنية -أي: مباني الإسلام الخمسة- وفي الصفات، وفي الأسماء، وفي القرآن، وفي قدرة الله، وفي عظمة الله، وفي علم الله، تعالى الله عما يقول الملحدون علواً كبيراً].
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.