[ما روي عن محمد بن كعب القرظي في القدر]
قال: [عن محمد بن كعب القرظي قال: الخلق أدق شأناً من أن يعصوا الله عز وجل طرفة عين فيما لا يريد].
يعني: أن الخلق منذ آدم إلى قيام الساعة لو اجتمعوا على أن يعصوا الله تعالى بمعصية لم يأذن فيها ما قدروا على ذلك، وهذا معناه: أن المعاصي لا تكون إلا بقدر الله عز وجل، وأنه أرادها إرادة كونية قدرية، وليست إرادة شرعية دينية؛ لأن الله تعالى يبغض المعاصي، ولا يأذن سبحانه أن يكون في الكون إلا ما أراد من خير أو شر، فلو أراد إنسان أن يطيع الله تعالى طاعة لم يأذن الله بها لا يستطيع أن يفعلها مع أنها طاعة.
فمثلاً: لو ذهبت في قضاء حاجة أخيك وأنت في غاية الحماس، ولكن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ أن هذه الطاعة وهذه الخطوات لا تتم؛ فسيبعث الله لك أي شيء يصرفك عن هذه الطاعة؛ لأن الله لم يأذن بها مع أنها طاعة.
والشر كذلك؛ يذهب الإنسان من هنا إلى هناك لأجل ارتكاب معصية معينة، ولكن الله تعالى بعزه وسلطانه وجبروته ما أراد أن تقع هذه المعصية فيصرفه عنها، وإذا أراد الله تعالى أن تكون منك المعصية قدرها عليك، ويسر لك أسبابها؛ لأنه علم أزلاً أنك ستختار هذا الطريق، وليس في هذا أدنى احتجاج بالقدر على المعصية أبداً، ولا يقول قائل: ربنا هو الذي قدرها علي.
قال: [وعن ابن وهب قال: قال رجل لـ محمد بن كعب القرظي: ما أبعد التوبة! قال: فتبسم، قال: بل ما أحسن التوبة وأجملها] يعني: كان عليك أن تقول: ما أحسن التوبة لا ما أبعد التوبة؛ لأن معنى قولك: (ما أبعد التوبة) أنك أنت الذي تملك التوبة، يعني: إذا كنت أريد أن أتوب أتوب، وإذا ما أريد أن أتوب لم أتب، لا؛ التوبة بيد الله عز وجل، والذي بيد الله لا يصح وصفه بالبعد.
[فقال الرجل: أرأيت إن قمت من عندك فأتيت المنبر فعاهدت الله عنده ألا آتي الله بمعصية أبداً، قال: فمن أعظم ذنباً منك، أو أعظم جرماً منك إذا تأليت على الله ألا ينفذ فيك أمره].
أي: كأن يقول شخص: أقسم بالله ثلاثاً لا أعصي الله أبداً، فما يدريك بذلك؟! وقد كان الشيخ الألباني يقول بعد كل خطبة جمعة: قولوا ورائي: تبنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا، وعزمنا على ألا نفعل.
فأنت مطلوب منك أن تستغيث وتجأر إلى الله عز وجل بالدعاء أن يحول بينك وبين المعصية، أما أن تحلف بينك وبين الله ألا تأتيه بمعصية أبداً فإذاً هو لمن يغفر؟ ومن يرحم؟ ويتوب على من؟ فستعطل كثير من أسمائه وصفاته، وإلا فالمعصية تقع بقدر الله، والطاعة تقع بقدر الله عز وجل، لكن الله تعالى يعاقب على المعصية، ويثيب على الطاعة.
ومعنى كونه قدر المعصية أي: أذن في خلقها وإيجادها، ولكنه يبغضها ويكرهها ويحذر منها، ورتب عليها العقوبات المناسبة، فلكل معصية عقوبة تناسبها؛ حتى لا يأتي شخص ويقول: ألست تقول: إن كل شيء بقدر؟ فأنا زنيت وسرقت وقتلت وشربت الخمر، فلماذا تضربونني وتعذبونني على ذلك؟ كما حصل في زمن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما شرب شارب الخمر، فقال له عمر: ما الذي حملك على ذلك وأمر بضربه؟ قال: يا أمير المؤمنين! أتضربني على أمر قدره الله علي؟! قال: نعم نضربك بقدر الله.
يعني: الذي قدر عليك المعصية أيضاً قدر عليك العقوبة.
قال: [قال محمد بن كعب القرظي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو على المنبر بيده اليمنى، قال: (هذا كتاب بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وأنسابهم، مجمل عليهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم، قال: ثم قبض يده اليمنى ومد اليسرى فقال: هذا كتاب الله بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وأنسابهم، مجمل عليهم لا يزاد فيهم ولا ينتقص منهم، وليعمل أهل السعادة بعمل أهل الشقاء حتى يقال: كأنهم هم هم، بل هم هم، ثم يستنقذهم الله عز وجل قبل الموت ولو بفواق ناقة، حتى يسلك بهم طريق أهل السعادة، وليعمل أهل النار بعمل أهل السعادة حتى يقال: كأنهم هم، بل هم هم، ثم يسلك بهم ولو بفواق ناقة طريق أهل الشقاوة، والشقي من شقي بقضاء الله، والسعيد من سعد بقضاء الله، والأعمال بالخواتيم)].
يعني: لا أحد منا يضمن على الله تعالى الجنة، ولكن يجتهد المرء قدر طاقته في طاعة الله عز وجل، والذي يختم له به هو في علم الله، وكم من إنسان عمل بطاعة الله دهراً من عمره، ثم ارتد قبل موته ومات على الردة، وكم من إنسان حارب الله تعالى ورسوله، وأراد الله تعالى له الهداية قبل موته بأيام أو بلحظات؛ فتاب وآمن، وربما لم يصل ولم يصم ولم يزكِ، تاب ومات فصار من أهل الجنة وكأنه لم يعمل شراً قط، بل نطق بشهادة التوحيد ومات على ذلك، فإذا كانت الأعمال بالخواتيم، وكلنا مرهونون بعلم الله عز وجل، وعلم الله تعالى نافذ لا محالة في الخلق؛ فعلينا بملاك الأمر وهو الدعاء والتضرع أن يجعلنا الله تعالى وإياكم من أهل السعادة، ولا يجعلنا من أهل الشقاوة.
ثم قال: [عن محمد بن كعب القرظي قال: كانت الأقوات قبل الأجساد -يعن