[كتاب الإمام أحمد إلى رجل أراد أن يناظر المبتدعة بألايفعل]
قال: [وكتب رجل إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله كتاباً يستأذنه فيه أن يضع كتاباً يشرح فيه الرد على أهل البدع، وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم، ويحتج عليهم]، وهذا الرجل مؤدب جداً، ويبدو أنه كان من أقران أحمد بن حنبل، أو من تلاميذه.
قال: [فكتب إليه أحمد فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، أحسن الله عاقبتك، ودفع عنك كل مكروه ومحذور، الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا عليه من أهل العلم أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمور في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم، فإنهم يلبسون عليك -أي: في نفس الوقت- وهم لا يرجعون -أي: عن بدعهم وأهوائهم- فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم، والخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم، فليتق الله امرؤ، وليصر إلى ما يعود عليه نفعه غداً من علم صالح يقدمه لنفسه، ولا يكن ممن يحدث أمراً، فإذا هو خرج منه أراد الحجة].
أي: حتى لو نجا من الجلوس مع البدع فإنه سينجو وفي ذهنه شبهات القوم، فلا يسأل عن الحجة والدليل والبرهان، فما الفرق بينه وبين أصحاب الأهواء إلا درجة؟! فالشبهات قد استقرت عنده، لكنه لا يزال يرفض النهج كله، وإنما أصابته شبهات القوم، فهو يسأل عن الحجة.
قال: [فيحمل نفسه على المحال فيه، وطلب الحجة لما خرج منه بحق أو بباطل؛ ليزين به بدعته وما أحدث، وأشد من ذلك أن يكون قد وضعه في كتاب قد حمل عنه، فهو يريد أن يزين ذلك بالحق والباطل، وإن وضح له الحق في غيره، ونسأل الله التوفيق لنا، ولك والسلام عليك].
فانظر إلى نصيحة الإمام أحمد بن حنبل لرجل من أصحاب القرن الثالث، وهو من القرون الخيرة أصحاب العلم والفضل والعبادة وغير ذلك، وقد كان عندهم من الأعمال التي تحصنهم بين يدي الله عز وجل الكثير، ومع هذا كل منهم ينصح الآخر، والآخر هذا لا يقل عنه في الإمامة في الدين، فقد كان ينصحه بعدم الجلوس إلى أصحاب الأهواء، وكثير كثير جداً من أصحاب الأهواء إنما ذهب في هذا الهوى بسبب مصاحبة هؤلاء، ومصادقتهم، أو مجالستهم أو غير ذلك.
وأذكر قديماً سنة: (١٩٧٤م) و (١٩٧٥م) لما انتشر فكر التكفير في بلادنا، كنا نسمع عن جماعة التكفير، فحب الاستطلاع والاستشراف كان يدفع الواحد منا إلى أن يجلس مع هؤلاء، ومعلوم أن عندهم آيات وأحاديث معينة لا يتعدونها، فتخرج من عنده وتقول: والله إن كلامه حق، وبصراحة إن كلامه طيب، ثم يقول لك: أنا سأسافر يومياً لحضور الدرس معهم.
فأنا قلت في يوم من الأيام سنة ١٩٧٦م -وأنا في الثانوية العامة بعد مقتل الذهبي بثلاثة أيام-: أحضر الدرس أنا وزملائي وأرد عليهم، فحضرت درساً لزعيم من زعمائهم وهو يشرح صحيح مسلم، فقال: الإمام النووي يقول في شرح حديث: (الحكمة يمانية والفقه يمان، أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً)، يقول: أهل اليمن.
المقصود بهم: أهل المدينة! وهذا كفر بالإجماع! فقلت له: ما الذي يكفره بهذا؟ هب أنه أخطأ، فهل يقال للمخطئ: أنت كافر؟ فقال لي: ما اسمك؟ فقلت له: معرفة اسمي وعنواني ليست قضية، فأنت تتكلم في العلم في هذا الوقت، قلت له هاتين الكلمتين، ولم أفق بعدها إلا بساعتين أو ثلاث إلا وأنا خارج المسجد، والمسجد مقفل ولا أحد بجواري نهائياً، فقلت: هذا هو الطريق، المطلوب أننا نشرب ولا نرد.
وبعد ذلك لما وقفت على كتاب الشريعة للإمام الآجري وهو يتكلم في نفس الباب: التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب، والتحذير من مجالسة أهل البدع، عرفت أن هذا هو الحق.
يا إخواني! أنا أحترم جداً كلمة: على منهج السلف؛ لأنها عصمة من الله عز وجل، فالذي عملوه نحن نعمله، وهم أعلم منا، بل هم أولى مننا بالعلم، وأفضل منا، وأعبد منا، وأتقى منا، وأعرف منا، وكل المؤهلات قد اجتمعت فيهم، وإذا كانت الأمة لا تجمع على الضلال فمن باب أولى ألا يجمع على الضلال أصحاب القرون الخيرية، وإذا كان الله تعالى بين أن الخير في هذه الأمة فالمخاطب بذلك أولاً هم الصحابة رضي الله عنهم، لذا فالمهم دائماً أن تجعل بينك وبين سلفك حبلاً ممدوداً متصلاً مرتبطاً بهم كل الارتباط، ولو حلت عقدة من هذا الحبل لانحلت عقدة من دينك، فلابد أن تتأكد من صلتك بسلفك.