[الجمع بين قولنا: إنه لا راد لما قضى الله وقدره، وبين الحديث: (لا يرد البلاء إلا الدعاء)]
السؤال
ما وجه الجمع بين ما قلت وبين ما نعلم من أن الدعاء يرد البلاء، وأن الدعاء والقدر يعتلجان في السماء، وكيف أدعو الله عز وجل أن يصرف عني بلاءً وأنا أعلم أنه لو قدره الله تعالى علي فلن يصرفه عني؛ فلم الدعاء إذاً؟
الجواب
هذا كلام جميل، ونفس سؤالك هذا قد سأله الصحابة رضي الله عنهم، فأقول: هل تعلم أنت بنزول البلاء أم لا؟ وهل تعلم أن الله كتب عليك البلاء أم لا؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر كان يعلم من ربه أنه منصور؛ بدليل أنه قال: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وظل يعدد مصارع صناديد الشرك والكفر، ومع هذا رفع يديه عليه الصلاة والسلام في ليلة الجمعة إلى الله عز وجل، وظل يدعو ربه طوال الليل، ويستغيث الله عز وجل أن ينصره مع أن الله ناصره، وهو يعلم ذلك، فكان ينبغي أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا منصور، وينام طوال الليل حتى يستعد للحرب بعد الفجر، كان له ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب ومن أعظمها الدعاء.
قال الحافظ ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه (الداء والدواء): الدعاء والبلاء يعتلجان في السماء، البلاء نازل والدعاء صاعد، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يرد البلاء إلا الدعاء) هذا حديث صحيح.
ومعنى ذلك: أن الله تعالى قدر لي البلاء، ومع تقديره البلاء في اللوح المحفوظ قدر أنه لن يصل إلي، أو سيصل إلي، أو يعتلج مع الدعاء إلى قيام الساعة، فالحديث: (لا يرد البلاء إلا الدعاء) والدعاء هذا لقوته وقوة حرارة الإيمان فيه رد عنك البلاء، فلم يخف على الله تعالى لما كتب عليك البلاء أنك ستدعوه بإخلاص ويقين، فيرفع هذا الإخلاص وهذا اليقين البلاء، إذاً: فهو قدر البلاء وقدر لهذا البلاء أن يصعد مرة أخرى، لكنك أنت لا تعلم ذلك، ولا تدري أن الله قدر لك البلاء أم لا.
فلو أنك خرجت من هذا المسجد وصدمتك سيارة، فدقت السيارة ذراعك فانكسرت؛ فهذا بلاء، وهو مقدر في السماء، ومع ذلك يحتاج إلى الدعاء؛ فإنه ربما يبرز هذا الدعاء بحرارة إيمان ويقين جداً، فيتقبله الله فيصرف عنك هذا البلاء، فإذا صرفه عنك فاعلم أنه مكتوب في اللوح المحفوظ أن من القدر نزول البلاء، ومن القدر كذلك رفع البلاء بسبب الدعاء، هذا مكتوب وذاك مكتوب.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (صلة الرحم تزيد في العمر) مع أن الله تعالى يقول: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:٣٤].
فأنت مكتوب لك أنك تعيش خمسين سنة مثلاً على التمام والكمال بغير زيادة ولا نقصان، لكن هل تعرف أن هذا مكتوب لك؟ لا، ولو كنت تعرفه لاستمررت في العصيان طوال عمرك، وعندما يصل عمرك إلى (٤٩) سنة تتوب من ذلك؛ لأنك تعرف أن الموت لم يبق له إلا سنة واحدة، وتعرف أن معادك الساعة كذا في الدقيقة الفلانية، وقد تقعد على القبر لتستعد للموت، لكن من حكمة الله تعالى أنه أخفى عليك يومك حتى تجتهد طول عمرك؛ لأن الموت ينزل بك وبساحتك في أي وقت وأنت شاب أو شيخ أو كهل أو رجل أو امرأة، صغيراً كنت أو كبيراً، الموت يأتي بغتة، فإذا كان هذا اعتقادك اجتهدت في الطاعة، واجتهدت في العبادة والدعاء الذي هو رأس العبادات، وبهذا الدعاء يرفع الله عنك البلاء.
فالله تعالى قدر لك في اللوح المحفوظ أنك ستعيش (٥٠) سنة، وهذا اللوح المحفوظ لا يقبل المحو ولا الإثبات: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:٣٩]، فالمحو والإثبات إنما هو في الصحف التي في أيدي الملائكة، فالله تعالى يقول للملائكة الذين يكتبون، أو لملك الأرحام الذي يكتب عمرك: اكتب إذا كان واصلاً لرحمه فسيعيش ستين سنة، وإذا كان غير ذلك فسيعيش خمسين سنة، والله تعالى علم أنك لن تكون واصلاً؛ فكتبك في اللوح المحفوظ -الذي لم يُطلع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً- أنك ستكون قاطعاً للرحم، وأن عمرك ينتهي عند الخمسين، ولكنه أمر الملائكة: اكتبوا إذا كان واصلاً فسيعيش ستين سنة، وإذا كان غير واصل فسيعيش خمسين سنة، فهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (صلة الرم تزيد في العمر) أي: هي سبب في زيادة العمر المعلوم في علم الله الأزلي، والله تعالى علم منك قبل أن يخلق السموات والأرض أنك ستكون واصلاً أو قاطعاً، وهذا من العلم الذي أخفاه الله عن جميع الخلق حتى الملائكة والأنبياء، فالملك الذي كتب عمرك لا يدري متى تموت بالضبط على الكمال والتمام؛ لأن الله تعالى قال له: اكتب: إن هذا سيموت وعمره (٥٠) أو (٦٠) سنة حسب عمله الصالح أو الطالح، فالملك لا يعلم عين التوقيت الذي تقبض فيه روحك، لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل، فهذا معنى أن الأعمال الخيرية تزيد في العمر.
وربما يكون المعنى: أنها تزيد في العمر بركة، فشخص عاش (٦٠) سنة، لكنه لم يعمل خيراً قط، وشخص عاش (٣٠) سنة أو (٤