[يسر الإسلام باعتبار موانع التكفير]
من موانع التكفير الجهل، وأنتم تعرفون أنه لو لم يكن الجهل من موانع التكفير لوقع معظمنا في هذا المحظور، فنحن نخطئ كثيراً في المسائل العملية، بل نخطئ في المسائل الاعتقادية، بل نخطئ في الأسماء والصفات وبما يتعلق بالذات العلية، فإذا لم نكن معذورين بهذا الخطأ أو بهذا الجهل، فإن الله تعالى كان ينبغي أن يكون له معنا شأن آخر، فمن رحمة الله عز وجل ويسر هذه الشريعة أن جعل الجهل مانعاً من موانع التكفير.
وكذلك الخطأ أو الشبهة: شخص يعمل عملاً خطأً أو متأولاً، عنده شبهة يعتقد أنه على الحق، فإذا به على الخطأ المبين؛ لذلك هو يقول قولاً ويرجع عنه غداً، يقول قولاً اليوم، فإذا تعلم وبانت له الحقائق رجع عن قوله وذم التعصب.
وكذلك الإكراه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:١٠٦]، وهذه طبعاً الرخصة، أما العزيمة فهي أن يثبت المرء على إيمانه وإن قتل؛ وذلك لأنه يضحي بأمر عام، خاصة إذا كان من أصحاب الوجاهة، وممن يشار إليه بالبنان.
ابتُلي أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى بفتنة خلق القرآن، فـ أحمد بن حنبل طيلة عمره كان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فقد كفر، وإذا بالخليفة يحبسه ويضربه ويركبه على دابة، ويجعل ظهره في مكان وجهه، ووجهه في مكان ظهره، فيكون وجهه في دبر الدابة، ويطوف به بغداد، ويقول له: يا أحمد! قل للناس: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أحمد بن حنبل، فلا يزيد أحمد إلا أن يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال بغير ذلك كفر.
إصرار منه إلى آخر لحظة، فطافوا به على بغداد، وجيء به فأدخل السجن، ودخل عليه رجل يشفق عليه.
قال: يا إمام! كلمة قلها تنج بها من الأسر؛ فنظر أحمد إلى ثلاثين ألفاً قد وقفوا بمحابرهم وأقلامهم، وقال: أقول كلمة يكتبها هؤلاء فتكون ديناً إلى قيام الساعة، لا والله لا أقولها، فخرج وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق.
وجاء أحمد بن أبي دؤاد عالم السلطة في ذلك الزمان، فقال: يا أحمد! أليس القرآن شيئاً؟ قال: بلى.
قال: أليس الله عز وجل خالق كل شيء؟ قال: بلى.
قال: إذاً: الله تعالى خالق لهذا القرآن.
قال أحمد بن حنبل: يا ابن أبي دؤاد! أليس القرآن شيئاً؟ قال: بلى.
قال: أليس الله تعالى قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:٢٥] أتقول: أن هذا القرآن يدمر؟ فسكت أحمد بن أبي دؤاد؛ لأنه لو قال: نعم.
كفر وهو يعلم ذلك، وإن قال: لا.
أقيمت عليه الحجة، وانصرف الناس جميعاً وقد أخذوا قول أحمد، ولا يزال أهل السنة والجماعة يعتقدون صحة قول أحمد إلى أن تقوم الساعة، فإمام الفتنة في ذلك الزمان هو أحمد بن أبي دؤاد، وإمام الهدى والتقى والعلم هو أحمد بن حنبل رضي الله عنه ورحمه، رجل علم أن مدار كلمة الأمة وصحة اعتقادها على قوله، فلابد أن يثبت وإن كان ثمن ذلك ذهاب روحه وخروج نفسه، فهذه من العزيمة في حقه، إذ لا يحل لـ أحمد بن حنبل أن يأخذ بالرخصة حينئذ، أما إنسان آخر من غثاء الناس لا يؤبه بقوله ولا يعبأ به، فلا بأس أن يقول كلمة الكفر حين الإكراه.
إن يحيى بن معين إمام من أئمة العلم في زمن أحمد بن حنبل، بل هو شيخ أحمد بن حنبل في الرجال، سقط هذه السقطة.
قال: القرآن كلام الله مخلوق، فخاصمه أحمد ولم يكفره، وهذا أمر سنتعرض له بعد قليل، فلما دخل يحيى بن معين لزيارة أحمد أشاح عنه أحمد بوجهه، فقال يحيى: يا إمام! والله إنك لتعلم أني لا أعتقد ذلك، وأنت تعلم أني أعتقد أنه غير مخلوق؛ ولكني قلت ذلك مخافة السوط.
اقرأ ترجمة يحيى بن معين تجده رجلاً نحيف البدن، هزيل الجسم، فضربة بسوط أو سوطين تنهي أمره ويكون ميتاً، ما قال ذلك إلا هروباً من الضرب، فهو معذور في هذا، والإكراه له شروط ليس هذا أوان سردها.
فموانع التكفير: الجهل، والخطأ، والتأويل أو الشبهة، والإكراه، حيث إن التكفير حكم شرعي له ضوابطه، وأحكامه وحدوده يجب مراعاتها، فلابد من قيام الحجة وفهمها، وفي الدرس الماضي قلنا: ليست العبرة في قيام الحجة على الشخص، بل العبرة في أنه يفهم هذه الحجة.
مثال ذلك: لو أنك قلت لشخص: الذي تعمله هذا حرام؛ لأن ربنا قال كيت وكيت وكيت، والرسول قال كيت وكيت، وهو لم يفهم نصاً واحداً، هل أقمت عليه الحجة بهذا؟ فهو لم يفهم معنى كلام الله ولا معنى كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يفهم ما معنى إجماع الأمة، فلابد أن يفهم الرجل الحجة، كما يجب أن تتوفر الشروط المؤدية إلى إلحاق الكفر به، وتنتفي عنه الموانع المانعة من إلحا