للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[آثار عن السلف في كراهة القول في المسائل بآرائهم، وتعقيب المصنف عليها]

قال: [سئل عطاء عن شيء؟ فقال: لا أدري، فقيل له: قل فيها برأيك، قال: إني لأستحي من الله أن يدان في أرضه برأيي.

وعن ابن سيرين أنه سئل عن شيء، فقال: أكره أن أقول برأيي، ثم يبدو لي بعد ذلك رأي آخر فأطلبك فلا أجدك.

وسئل ابن سيرين أيضاً عن شيء، فقيل له: ألا تقول فيه برأيك؟! فقال: إني أكره أن أجرب السم على نفسي.

وقال الأعمش: إنما مثل أصحاب هذا الرأي مثل رجل خرج بالليل فرأى سواداً، فظن أنها تمرة فإذا بها عقرب، فلما التقطها لدغته].

قال الشيخ: [الله الله يا إخواني يا أهل القرآن، ويا حملة الحديث! لا تنظروا فيما لا سبيل لعقولكم إليه، ولا تسألوا عما لم يتقدمكم السلف الصالح من علمائكم إليه، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا قوة بأبدانكم الضعيفة، ولا تنقروا ولا تبحثوا عن مصون الغيب، ومكنون العلوم؛ فإن الله جعل للعقول غاية تنتهي إليها، ونهاية تقصر عندها، فما نطق به الكتاب وجاء به الأثر فقولوه، وما أشكل عليكم فَكِلُوه إلى عالمه].

يعني: أوكلوا أمره إلى أهل العلم المتبحرين المتخصصين فيه، ولا تنشغلوا به أنتم.

[ولا تحيطوا الأمور بحيط العشواء، حنادس الظلماء، بلا دليل هاد، ولا ناقد بصير، أتراكم أرجح أحلاماً، وأوفر عقولاً من الملائكة المقربين حين قالوا: {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:٣٢]؟!] أي: أنهم أوكلوا أمر العلم فيما لا يعلمون إلى الله عز وجل.

ثم قال: [إخواني! فمن كان بالله مؤمناً فليردد إلى الله العلم بغيوبه، وليجعل الحكم إليه في أمره، فيسلك سبيل العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم المحجة الواضحة، والجادة السابلة -أي: المسلوكة- والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به، والمخالفة إلى ما نهي عنه؛ يقع -والله- في بحور المنازعة، وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه، والمخالفة لأمره، والتعدي لحدوده.

والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين، فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه؟ أما تعلمون أن الله قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب ألا تقولوا على الله إلا الحق؟! فسبحان الله أنى يؤفكون].

أقول: والعجب أن هذا الباب لم يذكر في كتب الأدب، وإنما ذكر في باب الاعتقاد، وفي أبواب أصول الدين؛ لأن الأمر فيه جدل خطير، ففيه التحذير من قوم يتعمقون، وينقبون ويبحثون عما لا يعنيهم، والتحذير من صحبتهم، والاستماع إليهم وغير ذلك.

والناظر لأول وهلة إلى هذا الباب يرى أن كتب الأدب التي تذكر أدب طالب العلم؛ أولى بهذا الباب من كتب الاعتقاد، لكن لما كان هذا الأمر متعلقاً بالمتشابهات من كتاب الله عز وجل، وأننا لم نكلف بالبحث عنها، وإنما كلفنا بالإيمان بها، وإمرارها كما جاءت، وإن غاب عنا علمها لكن لا يغيب علمها عامة عن الأمة كلها، بل لابد أن يتكلم فيها أهل العلم، ويقولون فيها قولتهم بما يفتح الله عز وجل به عليهم.

وأما نحن صغار طلاب العلم، أو صغار أهل العلم فإننا لم نكلف بذلك، وحذرنا أيما تحذير من التدخل فيما لا يعنينا؛ لأن هذا أمر يؤدي في نهاية الأمر إلى التشكيك والحيرة في كتاب الله عز وجل، وهذا باب عظيم من أبواب الكفر، فلما كان هذا الأمر يؤدي بنا إلى الكفر أراد أهل العلم أن يحافظوا على هذا الأمر، فأوردوه ضمن كتب الاعتقاد؛ لعلاقته بالإيمان والكفر.

أسأل الله تعالى أن يحفظني وإياكم من التنطع والجدل والتعمق، وأن يرزقنا وإياكم التمسك بالدين.