للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[هل الإنسان مخير أم مسير؟]

قال: [فهذا ونحوه من كتاب الله عز وجل مما يستدل به العقلاء من عباد الله عز وجل المؤمنين على أن الله عز وجل خلق خلقاً من عباده أراد بهم الشقاء].

قوله: (أراد بهم الشقاء)، الإرادة هنا إرادة كونية قدرية، لكن قد يتوجه سؤال وهو: إذا كان الله تعالى قبل أن يخلق العبد كتبه من أهل الشقاء، وأراد به الشقاء، ولأجله خلق النار، فلم يعذبه على ذلك؟! على أية حال الإرادة إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبر الوالدين والإحسان إلى الجيران وغير ذلك، ومع هذا فإنها إرادة كونية، بمعنى: أنها تقع في الكون، وعليه فكل إرادة شرعية دينية هي كذلك قدرية كونية، وليس العكس.

وكأن السؤال المطلوب على ألسنة العامة: هل الإنسان مسير أم مخير؟ هو في حقيقة الأمر مخير بعد البلاغ، فلما علم الله تعالى أزلاً أن عبده بعد البلاغ سيختار الضلال كتبه مع الأشقياء، وهذا منتهى العدل، فالله تعالى قبل أن يخلقك وهو العليم الخبير يعلم كل شيء في الأزل، بلا أول ولا آخر؛ لأن علمه يختلف عن كل مخلوق من المخلوقين.

فالله تعالى علم أن عبده فلاناً بعد بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام لا يختار طريق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما يختار طريق الضلالة والغواية والكفر، مع أن الشرع قد بلغه، لكنه اختار غيره، كأن اختار طريق النصرانية أو اليهودية أو البوذية أو غيرها من الديانات، فلما علم الله تعالى أزلاً أن عبده فلاناً لا يكون منصاعاً ومنقاداً للنبي عليه الصلاة والسلام كتبه من الكافرين الأشقياء، ولأجله خلق النار سبحانه وتعالى.

والله تعالى لما عذبه بإرادته سبحانه وتعالى لم يظلمه، وإنما ذلك قمة ومنتهى العدل؛ لأنه سبحانه علم أزلاً أن هذا العبد لا يؤمن فكتبه أنه من الكفار، كتبه من أول ذنب شقياً، إذ إن الله علم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فلا إشكال حينئذ، لكن قد يقول قائل: أنا أعمل هذه المعصية، ثم أنا ذاهب إلى النار! ما أدراك أنك ذاهب إلى النار؟ من الذي قال لك هذا؟ إذ إن الأعمال بالخواتيم، وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، والعكس بالعكس، فالعبد لا يدري بماذا يختم له، فكيف يقطع لنفسه بالجنة أو بالنار؟ إذاً: كل ميسر لما خلق له، وكل إنسان يجتهد في طاعة الله عز وجل، ولا يقول: أنا من الأشقياء! قد قضي الأمر.

لا، بل لابد أن يسلك طريق الخير والفلاح.

فلو أن طريقاً معبداً وطريقاً غير معبد، يعني: طريق سهل والآخر عسير جداً، وقلنا: كلا الطريقين يؤدي إلى الهدف الذي تريد أن تصل إليه، فحيئذ أي الطريقين ستختار؟ بلا شك المعبد، وهذا موقف العقلاء.

أما الطريق المكسر والمليء بالشوك والحجارة وغير ذلك فإنها لا يختارها أحد.

فكذلك طريق النار وطريق الجنة، فطريق الجنة محفوف بالمكاره، وطريق النار محفوف بالشهوات، والله تبارك وتعالى بين لك هذا في كتابه، وبينه لك رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته.

فقال: لا تدخل الجنة إلا إذا صليت وصمت وزكيت وحججت وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأتيت بسائر الطاعات، ونهاك عن المعاصي، فإن وقعت فيها فأنت من أهل النار، فالذي يزني أو الذي يعصي وهو يعلم أن غاية المعصية تؤدي به إلى النار ثم هو لا يتوب فهو على خطر عظيم، وإن كانت المعصية شركاً بالله أو كفراً فهو مخلد في النار.

وإن كانت معصية كبيرة أو صغيرة وهو قائم على الإسلام وتوحيده، أو يقصر بالأوامر، فإنه بمشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.