مما تقدم نشأت شبهة عند بعض الناس وهي: أن المرء لو عمل عملاً كفرياً كالسجود لصنم أو صليب أو قال قولاً كفرياً كسب الله ورسوله، أو استهزأ بآيات الله لشهوة أو غرض دنيوي فإنه لا يكفر ما لم يعتقد، أي: ما لم يستحل ذلك -وهذا كلام في غاية الفساد- وعدوا ذلك مانعاً من موانع التكفير؛ لأنه ما فعل ذلك معتقداً ولا مستحلاً ولا جاحداً، إنما فعل ذلك لغرض دنيوي كشهوة أو غير ذلك، مع أن علماء السنة أجمعوا أن موانع التكفير أربعة: المانع الأول: الجهل، أي: الجهل بأن هذا القول كفر أو أن هذا العمل كفر، فلو قال القائل قولاً وهو لا يعلم أنه كفر، أو عمل عملاً وهو لا يعلم أنه كفر فلا يكفر.
المانع الثاني: الخطأ، كأن يقول المرء قولاً خطأً لم يقصده ولم يتعمد النطق به أو العمل، لكن بادر إلى النطق به أو إلى عمله على سبيل الخطأ، لا على سبيل العمد والإصرار والتأويل أو الشبهة؛ لكن لو انتفت عنه الشبهة وذهب عنه التأويل لا يقول هذا ولا يفعله، فإذا قاله متأولاً أو بشبهة فإنه لا يكفر بذلك، ولا زالت الشبهات كلها رافعة للإثم، ولذلك عند الأحناف أن للمرأة أن تزوج نفسها إذا كانت بالغة رشيدة مختارة للكفء، فيجوز الزواج بهذه الشروط بغير ولي، وهذا الرأي مصادم مخالف للنصوص الشرعية في وجوب وفرضية الولاية في النكاح.
لكن لو أن امرأة نكحت بغير إذن وليها، فهل نحكم على هذا الزواج بالبطلان، وأن نتاج هذا الزواج أو هذا النكاح الزنا؟ لا نقول بذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:(أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنحاكها باطل باطل باطل)، تأكيد ثلاث مرات، فلا نبطله نحن لوجود شبهة الأحناف؟! خاصة وأن هذه الدساتير والقوانين في باب المعاملات الشرعية أو الأحوال الشخصية أخذت بمذهب الأحناف في هذا، وليس كل الناس يذهبون إلى المساجد لكي يتعلموا العلم، كما أن هذه الوسائل المرئية والمقروءة والمسموعة تضلل الناس في الليل والنهار في أمر دينهم، فربما سمعوا كلمة من إمام مضل في باب الولاية في النكاح فظنوا أن هذا هو دين الله تعالى، وذهبوا إلى المأذون فقالوا: هل يلزم الولي؟ فيقول المأذون متبرعاً ومتفضلاً: لا يلزم؛ لأن عنده القانون الذي يعمل من خلاله والذي يقول: لا يلزم الولي.
فهل إذا تزوجت المرأة على اعتبار هذه الشبهة -شبهة الأحناف- نقول: نكاحها باطل وأنها زانية، وإذا قلنا: زانية، فهل يقام عليها الحد، أم يدرأ بالشبهة؟ أنتم تعملون أن هذه كلها مسائل فرعية، ولو قلنا ببطلان هذا النكاح لكان لزاماً علينا أن نقول: إن ثلث نكاح الأمة باطل، أو أكثر من ذلك.
إن منطقة شرق آسيا بأكملها على مذهب الأحناف، وتصور أنك تذهب إلى ملايين مملينة من الناس وتبطل أنكحتهم، وتثبت أن هذا النكاح ما هو إلا زنا، هل هذا يتصور؟
الجواب
هذا النكاح صحيح، وإن كنا لا نعتقد ذلك، لكن هو صحيح على أصل شبهة الأحناف، وتبني هذه الحكومات لمذهب الأحناف، فلا نبطل أنكحة الناس والحالة هذه، وإن كنا نأمر كل واحد ألا يتزوج إلا بولي وشاهدي عدل وإشهار وإيجاب وقبول، وغير ذلك من أركان النكاح الصحيح على مذهب جماهير العلماء.
لكن دائماً أقول: الشبهة دارئة للإثم، ولذلك لو وقع إنسان في الكفر قولاً أو عملاً بشبهة أو بتأويل هل يكفر بذلك؟ لا، إذاً: من موانع التكفير: الجهل والخطأ والشبهة أو التأويل.
المانع الرابع: الإكراه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل:١٠٦]، فإن أكره على النطق بكلمة الكفر، فهل يكفر بذلك؟ لا يكفر بذلك، وأنتم تعلمون أن صناديد الكفر والشرك كانوا يعذبون بلالاً، وصهيباً، وعماراً وغيرهم رضي الله عنهم حتى ينطقوا بكلمة الكفر، لكنهم لم يفعلوها، هل لأن فعلها والنطق بها غير جائز لهم أو أخذاً بالعزيمة؟ أخذاً بالعزيمة.