[أثر ابن مسعود: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض)]
[وقال ابن مسعود: عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وإياكم والتنطع والتبدع والتعمق، وعليكم بالعتيق].
وهذه وصية جامعة.
قال: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض)، أي: قبل أن يموت العلماء، و (إياكم) أسلوب تحذير، و (عليكم) أسلوب حث.
قال: (وإياكم والتنطع) وأنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على المتنطعين فقال: (هلك المتنطعون ثلاثاً)، والتنطع: هو التعمق والتكلف فوق الحد، ودائماً أنا أقول لكم: إن العزيمة والشدة يحسنهما كل أحد، أما الرخصة فلا يحسنها إلا فقيه، (والنبي عليه الصلاة والسلام ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)، فهذا هو استخدام الرخصة في محلها، فالنبي عليه الصلاة والسلام يستخدم العزيمة في موطن يحتاج إلى عزيمة، ويستخدم الرخصة في موطن يحتاج إلى الرخصة، أما أن تستخدم العزيمة دائماً في كل وقت وحين فإن هذا أمر ينخرط عقده ولا يصل.
أي: لا يصل بصاحبه إلى الله عز وجل.
وانظر إلى أي إنسان مستقيم دائماً تأخذه العزيمة بالعزيمة، وفجأة تراه نازلاً إلى الهاوية، اصعد يا فلان! يقول لك: لا أستطيع، لقد تعبت؛ لكن من أخذ في أمره بالرفق، وكلف نفسه من العمل ما يطيق لابد أنه سيستمر؛ لأن هذه سنة الله في الكون وفي الخلق، فمن سعادة المرء أن يوفق لشيخ أو عالم يأخذ بيديه ويعلمه منهجية السلف في العلم والعمل؛ لأن العمل يحتاج إلى جهد، فإذا بذل العبد مجهوداً فوق طاقته انقطع به الطريق.
قال: (وإياكم والتنطع والتبدع) أي: والابتداع، (والتعمق)، وهو بمعنى: التنطع، (وعليكم بالعتيق) والعتيق: القديم، يعني: إذا حزبك أمر فليس لك من عاصم إلا الوحي، ولا يوصف الوحي بأنه قديم، وإنما يقصد به الأمر الأول، أي: عليك بالأمر العاصم من كل قاصمة وزلة وانحراف، فإذا نزل بك أمر فلا تطلب رأي فلان ولا علان، بل اطلب حكم الله تعالى وحكم الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا هو الأمر الأول العاصم من كل فتنة.
[وقال محمد: كانوا لا يختلفون عن ابن مسعود في خمس]، أي: خمس أمور كانوا يروونها عن ابن مسعود، وكأن هذه وصية ابن مسعود دائماً لأصحابه؛ حتى وردت عنه بالتواتر أنه كان يقول: [إن أحسن الحديث كتاب الله]، وهذه المسألة من جهة العقل ليست محسومة، فعندنا في هذا الزمان من يعترض على الله بعقله، وكأنه يقول بلسان حاله: كلامي أحسن من كلام الله، أليس هذا حاصلاً؟ حال العلمانيين والمنافقين الموجودين الآن على صفحات الجرائد والمجلات والصحف أنهم يعترضون على كلام الله عز وجل، وعلى كلام رسوله عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الاعتراض على آية من كتاب الله يقولون: أنتم لا تفهمونها فهماً صحيحاً، ومن هو ابن كثير هذا؟ ومن هو الطبري؟ ومن القرطبي؟ ثم بعد ذلك يطعنون في كتب المفسرين، وكلامهم هم فقط هو الصحيح، ومنظورهم للآية هو المنضبط، هكذا يزعمون ويدعون، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم بأنهم منافقون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤]، وهم يعلمون أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة، فلا يعقل أن معنى الآية يخفى على الأمة ألفاً وأربعمائة وخمسين سنة ويظهر لواحد من هؤلاء الكلاب الموجودين في هذا الزمان، وإلا فالأمة في ضلال منذ ألف وأربعمائة سنة، والعلماء فيها لم يكن لهم قيمة ولا مذهب، ولم يفهموا هذه الآيات، بل خبطوا فيها خبط عشواء، وهذا كلام لا يقوله إلا إنسان قد فقد عقله أو فقد قلبه، أو فقد قلبه وعقله على السواء مع الله عز وجل، فخرج من الإيمان بالكلية خاصة إذا كان يقصد ذلك، أما إذا كان يردد كلام هؤلاء عن جهل فهو على خطر عظيم، فهو إذاً على خطر في الحالين.
قال: [إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير السنة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف على ذلك، وشر الأمور محدثاتها]، أي: محدثات الأمور وبدع الأمور في دين الله عز وجل.
وهذا بلاء.
قال: [وإن أكيس الكيس التقى].
أفضل الأعمال أن يأتي العبد تقياً لله عز وجل.
قال: [وإن أحمق الحمق الفجور]، سواء في القول أو العمل أو الاعتقاد.
هكذا حفظ أصحاب ابن مسعود عنه هذا الحديث.