للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اقتصار دعوة الرسل على البلاغ واختصاص الله بالهداية والتوفيق]

قال: [فاعلموا رحمكم الله تعالى أن هذه طريقة الأنبياء عليهم الصلاة السلام، وبذلك تعبدهم الله -هذا الذي أمرك الله عز وجل أن تعبده به- وأخبر به عنهم في كتابه أن المشيئة لله عز وجل وحده، ليس أحد يشاء لنفسه شيئاً من خير وشر، ونفع وضر، وطاعة ومعصية، إلا أن يشاءها الله، وبالتبري إليه من مشيئتهم، ومن حولهم، وقوتهم، ومن استطاعتهم، بذلك أخبر عن نوح عليه السلام حين قال له قومه: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ} [هود:٣٢ - ٣٣]].

لأنهم قالوا له: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)، فقال لهم: ليس في يدي أن آتيكم بما وعدكم، وإنما الذي يأتيكم به هو {اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:٣٣ - ٣٤]، (وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي) أي: دعوتي، (إِنْ أَرَدْتُ) أي: ذلك، ومعنى الآية: وما ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد شيئاً غير ذلك، فمهما نصحتكم إذا كان الله يريد شيئاً غير هذا فإنه لا يتم إلا ما أراد الله عز وجل، {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:٣٤].

قال: [فلو كان الأمر كما تزعم القدرية كانت الحجة تظهر على نوح من قومه، ولقالوا له: إن كان الله هو الذي يريد أن يغوينا فلم أرسلك إلينا، ولم تدعونا إلى خلاف مراد الله لنا؟ ولو كان الأمر كما تزعم هذه الطائفة بقدر الله ومشيئته في خلقه، وتزعم أنه يكون ما يريده العبد الضعيف الذليل لنفسه، ولا يكون ما يريده الرب القوي الجليل لعباده، فلم حكى الله عز وجل ما قاله نوح لقومه مثنياً عليه وراضياً بذلك من قوله؟ وقال شعيب عليه السلام: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف:٨٩].

ثم قال شعيب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:٨٨] أي: ما أنا بموفق ومسدد إلا بمشيئة الله، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:٨٨].

قال: [وقال إبراهيم في محاجته لقومه: {أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:٨٠]، إذاً الله تعالى هو الذي بيده الهداية، {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام:٨٠].

وقال أيضا فيما حكاه عن إبراهيم وشدة خوفه، وإشفاقه على نفسه وولده أن يبلى بعبادة الأصنام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:٣٥]]، فإبراهيم عليه السلام صاحب الملة الحنيفية السمحاء يخاف أن يتحول قلبه! فدعا الله عز وجل أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام.

قال: [وقال فيما أخبر عن يوسف، ولجئه إلى ربه، وخوفه الفتنة على نفسه إن لم يكن هو المتولي لعصمته، {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي} [يوسف:٣٣]، إذاً الذي يصرف الشر هو الله عز وجل، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:٣٣]، قال الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:٣٤].

ثم أخبر تعالى أن العصمة في البداية وإلهامه إياه الدعوة كانت بالعناية الإلهية من مولاه الكريم به، فقال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:٢٤].

وقال عز وجل فيما أخبر عن موسى حين دعا على فرعون وقومه بألا يؤمنوا، وعن استجابته له وإعطائه ما سأل: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:٨٨]، قال الله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس:٨٩].

وقال فيما أعلمه لنوح بكفر قومه وتكذيبهم له: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْ