قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً)
[قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:١٠٣]].
اعتصموا: فعل أمر، وحبل الله هو دين الله المتمثل في الكتاب والسنة، وهذا الأمر موجه لكل المكلفين، وليس لطائفة دون أخرى، ولا جماعة دون الثانية، وإنما لكل من أسلم وصار مكلفاً عاقلاً يدرك الخطاب، فلابد أن يعتصم بحبل الله المتين.
وقوله: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:١٠٣] نهي يفيد التحريم.
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:١٠٣] أي: كنتم أعداءً من قبل محمد عليه الصلاة والسلام فألف بين قلوبكم، وأنتم تعلمون أن الأوس والخزرج كانت بينهما حروب قبل بعثته عليه الصلاة والسلام، وهما قبيلتان عظيمتان لم يكن بالمدينة أعظم منهما، فقامت بينهما معارك بسبب ناقة من إحدى القبيلتين نزلت في أرض القبيلة الأخرى فأكلت منها، فتعاركوا واقتتلوا أربعين عاماً؛ ولذلك كان مجيئه عليه الصلاة والسلام رحمة لجميع الخلق: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧] أي: عالم الإنس والجن.
ولذلك حدث في إحدى الغزوات أن كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! يعني: هلموا واجتمعوا.
وقال المهاجري: يا للمهاجرين! حتى اصطف الفريقان للقتال، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ومشى بين الصفين، وهو ينظر تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، ولم يتكلم إلا بكلمة واحدة قال: (دعوها فإنها منتنة).
(دعوها) أي: هذه العصبية الجاهلية، فالتعصب للمهاجرين والتعصب للأنصار دعوة جاهلية، ورائحتها نتنة؛ ولذلك استحيا الفريقان وانصرف كل إلى مكانه.
بسبب أكلة بعير تقوم الحرب أربعين عاماً، والله أعلم كم قتل فيها وكم سبي فيها، فما بالكم بكسعة رجل، فربما استأصلت شأفة المهاجرين والأنصار بسبب ذلك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام تكلم بكلمة واحدة كانت هي البلسم الشافي لكلا الفريقين: (دعوها فإنها منتنة).
ولذلك فإن التعصب لقومية معينة أو أرض معينة أو طائفة معينة كل هذا من نعرات الجاهلية، وخطره أنه يضعف الولاء لله عز وجل، ويضعف التعصب للكتاب والسنة.
فأنت لو تعصبت لجماعة معينة من الجماعات القائمة على الساحة، فإن ولاءك لله عز وجل يحتاج إلى مراجعة، بل التعصب ينبغي أن يكون للحق دائماً، والحق لم نعرفه إلا بقال الله وقال الرسول وأجمع العلماء فقط.
أما أن تتعصب لزعيم الطائفة أو شيخ المجموعة، أو أمير الجماعة أو غير ذلك، فاعلم أنك بمنأى عن كتاب الله وعن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فبعض الناس لو سب أميره فكأنه سب إلهه، يعني: يغضب لسب الأمير أعظم من غضبه لسب الله عز وجل، ولو كنت أنت في الشارع وكنت متعصباً لأمير ما، ووجدت الناس يسبون الدين فستقول: إن المجتمع كله فاسد، ولكن لو سمعت أنه يسب أميرك ويسب زعيمك لقاتلته قتالاً مستميتاً، ولا تكتفي بقولك: المجتمع كله فاسد، كما أنه لو سب أباك فإنك ستغضب له غضباً ربما لا تغضبه لو سمعت سب الإله بأذنيك، وهذا تعصب لأبيك أعظم من تعصبك لله عز وجل ومن غضبك وحميتك لله عز وجل، وهذا بلاء عظيم جداً.
ولو استعرضنا بعض مواقف الصحابة رضي الله عنهم لعلمنا يقيناً أنهم أحبوا الله تعالى ورسوله أعظم من كل شيء، أعظم من الولد والوالد والمال والناس أجمعين، فقد كان الواحد من أصحابه عليه الصلاة والسلام يسمح لنفسه أن يقتل أباه المشرك، وكان الوالد يقتل ولده، والمرأة تقتل زوجها، والزوج يقتل امرأته كل هذا في سبيل الله عز وجل، والرجل يترك ماله كله، ويرحل من مكة دار الكفر في ذلك الوقت إلى المدينة، حتى يقر النبي عليه الصلاة والسلام له بالربح الوفير العظيم يقول: (ربح البيع ربح البيع ربح البيع) لماذا؟ لأن هذا الرجل اشترى نفسه من المشركين بماله، فهان عليه المال ولم يهن عليه شيء من دينه.
فهؤلاء حقاً هم الذين تأهلوا أيما تأهل لأن يفتح الله تبارك وتعالى عليهم البلاد، وأن يفتح لهم قلوب العباد.
ولذلك نجد أن الإسلام انتشر في عهدهم انتشاراً رائعاً في شرق الأرض وغربها رغم قلتهم، ونحن رغم كثرتنا إلا أننا غثاء كغثاء السيل، بسبب حبنا للدنيا وكراهيتنا للموت كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
قال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:١٠٣].
وهو الإسلام الذي دعا إلى الجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، قال: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عم