[بيان معنى حديث (الحياء شعبة من الإيمان) عند المؤلف رحمه الله]
[قال ابن بطة: فإن سأل سائل عن معنى هذا الحديث، فقال: كيف يكون الحياء شعبة من الإيمان، والإيمان إنما هو قول وعمل ونية؟] هذا مذهب أهل السنة، والحياء هل هو قول؟ ليس قولاً، هل هو نية؟ ليس نية، هل هو عمل؟ منهم من قال: هو عمل، ومنهم من قال: ليس بعمل، قال: [والحياء سجية غريزية يطبع عليها البر والفاجر، والمؤمن والكافر].
يعني: أن الكافر يستحي، فهل تتصورون أن الجاهلية قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام لم يكونوا يفعلون خيراً قط؟ كان فيهم الخير والشر، لكن ليست لهم في الخير نية، وكذلك هذه الشعبة، أي: الحياء.
قال الإمام: [فنقول في معنى ذلك والله أعلم: إن المؤمن يحول بينه وبين المعاصي والكبائر وارتكاب الفواحش الإيمان بالله عز وجل]، يعني: السد المنيع الذي يحول بينك وبين المعاصي هو إيمانك بالله، [والتصديق له فيما تواعد عليها من العقاب، وأليم العذاب].
إذاً: الذي يحول بينك وبين المعصية أمران: إيمانك بالله عز وجل، ووعده لك بالثواب إن تركت المعاصي، وخوفك من الله عز وجل الذي توعدك بالعقاب والجزاء إن اقترفت المعصية، قال: [وكذلك يقوده إلى البر، واصطناع المعروف، والإيمان بالله عز وجل، التصديق له فيما وعد، وضمن لفاعلها من حسن المآب وجزيل الثواب، وكذلك تجد المستحي ينقطع بالحياء عن كثير من المعاصي].
وربما اشتاقت نفس العبد إلى الوقوع في معصية وتهيأت له أسبابها، وكان في خلوة من الناس، لكنه يوقن أن الله تعالى مطلع عليه، ويعلم سره ونجواه، فمنعه حياؤه من الله عز وجل أن يقترف المعصية على هذا النحو، أليس هذا باباً من أبواب الحياء، إذاً: الحياء شعبة من شعب الإيمان.
قال: [وإن لم تكن له تقية، فصار الحياء يفعل ما يفعله الإيمان من ترك المعاصي.
وكذلك أيضاً ربما سئل الرجل في نوائب المعروف واصطناع الخير، فأجاب سائله حياءً منه وإن لم يكن له هناك نية سبقت فيه.
وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد! إن الرجل ليسألني وأنا أمقته فما أعطيه إلا حياءً].
أي: شخص يسأل الحسن البصري فيقول: يأتيني السائل وفي حقيقة الأمر أنا أبغضه، وأريد ألا أعطيه شيئاً، لكني أعطيه حياءً، مثل أن يحرجك واحد فتعطيه حياءً، فهل لك على هذه الكيفية نية؟ أنت لم تدفع إلا من أجل أن تتخلص منه.
ولذلك يعتبر التسول غلطاً، ربنا يعافينا وإياكم من هذه الصنعة، فهي قد بلغت الكمال والتمام، يعني: تعرف كيف تأخذ من المسئول، فإذا كان الأمر كذلك فهل دافع الصدقة الحياء؟ لا، ليس الحياء.
فقال: [فهل لي في ذلك من أجر؟ قال أبو سعيد: إن ذاك من المعروف، وإن في المعروف لأجراً].
رجل أراد أن يتخلص من ماله الحرام، كأن يكون عنده أموال من ربا، فهو يريد أن يتخلص منها امتثالاً لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، وكان بإمكانه أن يحتفظ بهذا المال وينفقه حيث شاء؛ لكن حياءه من الله عز وجل هو الذي دفعه أن يتخلص من هذا المال، وإن لم يكن للعبد فيه نية الصدقة أو نية الإنفاق في سبيل الله إلا أنه مأجور، إذ إنه استحى من الله وتخلص من هذا المال الحرام؛ لأنه لو أبقاه لكان آثماً كما في قول الصحابة رضي الله عنهم للنبي عليه الصلاة والسلام حين قال: (وفي بضع أحدكم صدقة)، والبضع هو الجماع، أو كناية عن الجماع، ولذلك قالوا (يا رسول الله! كيف يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها صدقة)، أي: مع أن هذا أمر غريزي يأتيه المرء بنية وبغير نية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قال: نعم.
قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له بها أجر)؛ لأنها من عموم المعروف، ومن عموم أداء الواجبات؛ لأن إتيان المرأة واجب على الرجل، وهناك خلاف بين أهل العلم في المدة التي يجب على الرجل أن يأتي فيها امرأته: فمنهم من قال: تجب مرة في كل أربعة أيام، قياساً على ما لو كان المسلم قد نكح أربعاً من النساء، فإن حظ كل واحدة مع التعدد ليلة يأتيها فيها الرجل.
ومنهم من قال: يجب عليه وجوباً -يأثم بتركه- أن يأتيها في كل طهر مرة، وهؤلاء هم الظاهرية، واستندوا إلى قول الله عز وجل: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:٢٢٢].
وكذلك المسافر إذا استأذن امرأته فيما لا يزيد عن أربعة أشهر إلا بإذن وطيب خاطر من المرأة، وأن يكون ذلك في سفر ضروري لطلب معاش أو رد عدو أو غير ذلك من الأغراض الشرعية للسفر.
قال: [قال سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال]، وهذا إسناد مرسل، لكن معنى الحديث تشهد له نصوص شرعية كثيرة: [(إن قلة الحياء كفر)].
أي: كفر عملي لا يخرج به صاحبه من الملة، قال: [فهذا شبيه بقوله: (الحياء شعبة من الإيمان)] إذاً: هذا خرج مخرج مفهوم المخالفة، يعني: هذا تخريج على الأصل، فالأصل أن الحياء من الإيمان، فترك الحياء لا بد أن يكون