وقال خلف بن سليمان البلخي: كان جهم من أهل الكوفة، وكان فصيحاً، ولم يكن له نفاذ في العلم -أي: أنه كان صاحب لسان لكنه ليس عالماً- فلقيه قوم من الزنادقة فقالوا له: صف لنا ربك الذي تعبده؟ فدخل البيت لا يخرج مدة من الزمان ثم خرج، فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء! أي: أن الإله الذي يعبده إنما دخل في ذرات الهواء، وبالتالي فإله الجهم ليس هو إلهنا الذي استوى على العرش، وهذا نفس معتقد النصارى، فقد قام طالب وقال القسيس في كنيسة: أين الإله؟ فأتى ببعض السكر وأذابه في كوب من الماء، فقال القسيس للطالب: أين السكر؟ قال: في الماء، قال: وكذلك الرب في كل شيء! فعقيدة الجهم بن صفوان هي نفس عقيدة النصارى، بل ليس كل النصارى يعتقدون ذلك، وإنما وافق جل النصارى في إثبات أن الله تعالى في كل مكان، وهذا نفس قول الأشاعرة الذين قالوا: إن الله في كل مكان، وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون العلو والفوقية والاستواء لله عز وجل على عرشه، وهذا هو الحق الذي نطق به الكتاب وجاءت به السنة، وعمل به اعتقاداً وعملاً أئمة الدنيا من سلف الأمة، وما خالف في هذه القضية إلا خلف ليس له في ذلك سلف إلا سلف ضلالة وبدعة، والله تعالى على العرش استوى، بائن من خلقه، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم جارية صغيرة ترعى غنماً لا حظ لها من العلم فقال:(أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة).
وأعجب من ذلك منذ عدة سنوات أني دخلت الجمعية الشرعية الرئيسية؛ لأنهم كانوا يوزعون كتباً مجاناً، فذهبت لآخذ بعضها لتوزيعها على الطلاب، فلما رأى هيئتي ليست كهيئة الجمعية الشرعية قال: أنا أسألك سؤالاً واحداً: أين الله؟ قلت: على العرش، فتبرم وقال: هو في كل مكان، وفي أثناء نزاعنا دخل حمال كان ينزل بالكتب إلى تحت، فقلت له: ما اسمك؟ قال: محمد، قلت: يا محمد! أين الله؟ قال: في السماء، فقلت: حمال يفهم ما لا يفهمه زعماء في الجمعية الشرعية! فهذه عقيدتهم، فهم يقولون: الله تعالى في كل مكان، وليس الأمر كذلك، ولا دليل معهم قط، بل ناقشني زعيم وكبير من كبرائهم يرحمه الله ويعفو عنه، فقال: أنت الذي تقول: إن الله على العرش استوى؟! فهو جالس على الكرسي! ما رأيكم أن تلبسوا ربنا عمامة؟! فقلت: لا والله، الله تعالى هو الذي أثبت في كتابه أنه على العرش استوى، وجميع الأنبياء والمرسلين وأهل العلم الصادقين المخلصين العاملين بشرائع الله، وبدين الله الواحد يعتقدون ذلك، فلا عقيدتكم في القرآن، ولا في السنة، ولا في عقيدة الأنبياء، ولا في عقيدة سلف الأمة، وكفى بها مخالفة، فهذه عقيدة الجهم بن صفوان! وقال أبو معاذ البلخي: لم يكن للجهم علم ولا مجالسة لأهل العلم، فقيل له: صف لنا ربك؟ فدخل البيت لا يخرج كذا، ثم خرج بعد أيام فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء، وفي كل شيء، ولا يخلو منه شيء! إذاً فالذي يقول: إن الله تعالى بذاته في كل مكان؛ يلزمه أن يقول: بأنه في أماكن القاذورات، وأماكن النجاسات والحمامات، وغير ذلك من البرك والمستنقعات المنتنة، وهذا قول يحمل بين طياته الكفر البواح، تعالى الله عما يقوله الملحدون علواً كبيراً.
وقد كان الجهم من أهل الجدل والخصومات كما سيتبين لنا بإذن الله تعالى.