[خلق الله ذرية آدم وإحصائه لأعمارهم وأعمالهم ومنتهى كل واحد منهم]
قال: [فمن هداه الله بفضل منه اهتدى، ومن خذله ضل بلا حجة له ولا عذر، خلق الجنة والنار] والجنة والنار مخلوقتان الآن، والنبي عليه الصلاة والسلام دخل الجنة فوجد أكثر أهلها المساكين والفقراء، واطلع في النار فوجد أكثر أهلها النساء.
قال: [وخلق لكل واحدة منهما أهلا هم ساكنوها، أحصاهم عدداً، وعلم أعمالهم وأفعالهم، وجعلهم شقياً وسعيداً، وغوياً ورشيداً، وخلق آدم عليه السلام وأخذ من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة]، وهذا معروف في سورة الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:١٧٢] وهذه الآية معروفة بآية الميثاق، وهو الميثاق الغليظ الذي أخذه الله عز وجل من ذرية آدم، وذلك لما خلقه أخرج ذريته من صلبه، وما ترك في ظهره أحداً إلا وقد أخرجه مؤمنهم وكافرهم، ثم أخذ الله تعالى عليهم العهد: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، فهم قد شهدوا على أنفسهم بربوبية الله عز وجل وإلهيته، وأنه المستحق للعبادة وحده، وأنه الإله الحق وما دونه آلهة مزعومة باطلة لا تستحق العبادة، ولذلك أخرج الله ذرية آدم من ظهره كالذر وأخذ عليهم العهد وهم على هذه الصورة، أي: على صورة الذر، وفي ذلك أحاديث كثيرة جداً.
قال: [وخلق آدم عليه السلام وأخذ من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة، وقدر أعمالهم، وقسم أرزاقهم، وأحصى آجالهم، وعلم أعمالهم، فكل أحد يسعى في رزق مقسوم]، أي: أن كل واحد يسعى في رزق مقسوم من قبل، ومقدر ومعلوم لله عز وجل، ولذلك سأل غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم النبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! فيم العمل، في أمر قد قدر وفرغ منه، أم في أمر سيكون؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: في أمر فرغ منه.
فقالوا: يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، لكن قد يقول قائل: أنا من أهل النار! فما عرفك أنك مكتوب في اللوح المحفوظ من أهل النار؟! وحتى وإن كنت شقياً فالأعمال بالخواتيم، ولذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار)، أي: في حياته كلها.
(حتى ما يكون بينه وبينها)، أي: النار.
(إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وحينئذ قال عليه الصلاة والسلام: (والأعمال بالخواتيم) فالإنسان لا يدري ماذا سيختم له، أو فيم يختم له، وإذا كان الإنسان لا يعلم أهو شقي أم سعيد، فالصحابة رضي الله عنهم -بل المبشرون منهم بالجنة- ما كانوا يأمنون من مكر الله.
فهذا عمر يقول: لو أن الناس نودوا يوم القيامة: ادخلوا الجنة إلا واحداً لظننت أني ذلك الواحد.
مع أنه مقطوع له بدخول الجنة.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله.
مع أن أبا بكر يعلم أن إيمانه يساوي إيمان الأمة وزيادة، لكن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى، وهذا عنوان المؤمن: يعبد الله تعالى بالخوف والرجاء، الخوف من ناره وعذابه، والرجاء في رحمته والطمع في جنته.
أما الذي يعبده بالخوف فقط فإنه يذهب في آخر أمره إلى اليأس من رحمة الله، وربما ينتحر؛ لأنه آيس من رحمة الله، والذي يعبد الله تعالى بالرجاء فقط لا بد أن يفرط في فرائض الله تعالى وأوامره، فإذا قيل له: صل أو صم أو زك أو حج أو افعل ما أمر الله أو انته عن ما نهاك الله عنه، قال: رحمة ربك وسعت كل شيء! الله تعالى سيرحمنا! فيترك كل شيء ويفرط في كل شيء؛ اتكالاً على رحمة الله وعلى عفو الله، ولا شك أن هذا عبد هالك، وربما أدى به ذلك إلى الكفر بالله عز وجل، ويدخل في إجماع أهل العلم: أن من نطق بالشهادتين ولكنه ترك العمل كله، وارتكب النهي كله فهو كافر بالإجماع؛ لأنه ترك جنس العمل وقارف جنس النهي.
قال: [فكل أحد يسعى في رزق مقسوم]، أي: معلوم لله تعالى، وعلم الله ذلك في الأزل، وفي الحديث الطويل في الصحيحين: (إن أحدكم يخلق في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك -ملك الأرحام- ويؤمر بكتب أربع: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، فانظر الملك يكتب الرزق والأجل والعمل وإذا كنت من أهل الشقاء أو من أهل السعادة، وبالتالي إذا كان الأمر كذلك فيجب علينا أمران: الأول: ألا نتكل على ذلك؛ لأن الذي كتب ذلك أمرنا بالسعي في تحصيل أسباب السعادة والهروب من أسباب الشقاء، وإلا لكان بإمكان النبي -وهو النبي عليه الصلاة والسلام- أن يمكث في مكة ويدعو على أهل مكة، وأنتم تعلمون أن دعاء النبي مستجاب، وكان بإمكانه عليه