للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قول موسى: (وأنا أول المؤمنين) وقول السحرة: (إن كنا أول المؤمنين)]

المسألة التاسعة: قول موسى: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:١٤٣].

وقال السحرة: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:٥١].

فإذاً موسى قال: (أنا أول المؤمنين)، والسحرة قالوا: (إن كنا أول المؤمنين).

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:١٦٢] إلى قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٣]، فقالوا: كيف قال موسى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:١٤٣]، وقد كان قبله إبراهيم مؤمناً ويعقوب وإسحاق؟! وقالت السحرة وهم الذين آمنوا بموسى: {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:٥١]، وكيف جاز للنبي أن يقول: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٣]، وقد كان قبله مسلمون كثيرون مثل عيسى ومن تبعه؟ فشكوا في القرآن وقالوا: إنه متناقض.

و

الجواب

أن قول موسى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:١٤٣]، حين قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣]، ولا يراني أحد في الدنيا إلا مات، أي: صعق.

{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:١٤٣]، أي: أول المصدقين أنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات.

وقوله: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٣]، أي: من هذا السؤال، فلا أسألك الرؤية مرة أخرى؛ لعلمي باستحالتها في الدنيا في حق المخلوقين.

أما في الآخرة فالعقيدة قائمة وثابتة أنه يراه أهل الإيمان، ويحجب عنه الكافرون.

وأما قول السحرة: {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:٥١]، أي: أول المصدقين برسالة موسى عليه السلام، فالإيمان بمعنى: التصديق، وهذا معناه اللغوي، ولذلك قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:١٧]، أي: بمصدق لنا.

وهذا بخلاف تفسير الإيمان عند أهل السنة والجماعة، إذ إنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح.

ولذلك اغتر المرجئة بتعريف الإيمان فقالوا: الإيمان هو التصديق فقط.

والجهمية قالوا: الإيمان هو العلم.

ومنهم من قال: الإيمان هو المعرفة.

ولا شك أن تعريف الإيمان على هذا النحو لا يصدق مع مذهب الاستقامة عند أهل السنة والجماعة؛ لأنهم -أي: المرجئة- يخرجون العمل عن مسمى الإيمان وحقيقته، كما أن الجهمية يجعلون إبليس من المؤمنين؛ لأنه كان يعلم ويعرف ربه حق المعرفة، فهم يقولون: الإيمان هو المعرفة، أو الإيمان هو العلم، لكن إبليس يعلم أن الله تعالى رب، ويعرف حقيقة الله عز وجل، ويعلم ذلك تمام العلم، فهل يصير بذلك مؤمناً؟! لذلك كانت هذه التعريفات للإيمان من جهة الاصطلاح كلها تعريفات منابذة لتعريف أهل السنة والجماعة.

وأحياناً الواحد منا يدخل في تحد، أو في مسابقة، أو غير ذلك، وهذا الكلام من كلام العرب، فيقول: لو أنك يا بني نجحت في الامتحان، وأتيت بدرجة (١٠٠%)؛ فأنا أول من يمنحك هدية، لكن سبقك إلى الإهداء غيرك، وكذلك قولي: لو أنكم فعلتم كذا وكذا لكنت أنا أول المطبقين، فلا يلزم أن أكون أول المطبقين على الإطلاق، لكن يلزم أنني من أوائل المطبقين لهذا الكلام، وغير ذلك من الأمثلة كثير، والمقصود هنا: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:١٤٣]، أي: أنا أكون أول من يؤمن بهذا، ولا يلزم من ذلك الأسبقية المطلقة في الإيمان والتصديق، وإنما ذلك مثل ما تقول بالضبط: لو أنك يا فلان ذهبت إلى زيارة والديك فسوف تجدني أول من يدخل بيتك، ويحملك إلى والديك، وآخر مات أبوه وأمه فقال: الذي يمنعني من زيارتهما هو عدم وجود المواصلات، فقلت له: لو أنك مستعد لزيارة والديك فستجدني أول من ينتظرك بسيارتي عند بابك ليحملك إلى والدك، وعليه فإذا أبدى الموافقة فلا يلزمك أنك تكون أسبق الناس إليه، بل ربما سبقك غيرك.

إذاً معنى كلامي: لو أنك مستعد لزيارة والديك ستجدني على أتم استعداد لحملك.

وهكذا قول الأنبياء: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:١٤٣]، وقول السحرة {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:٥١]، أي: من أوائل المؤمنين المتابعين المصدقين لهذا الوحي الذي نزل من السماء.

وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٣]، أي: من أهل مكة، أو يحمل على كلامنا السابق، وهذا تفسير ما شك فيه الزنادقة.