[قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا)]
قال: [وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ} [النساء:١٣٦]]، فالله تعالى خاطب أهل الإيمان وطالبهم بزيادة الإيمان، أن يسلكوا السبل المحصلة لزيادة الإيمان في القلوب، بدليل أنه لم يقل لهم يا أيها الناس ولا يا أيها المسلمون، وإنما قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) فأثبت لهم الإيمان، ((آمِنُوا)) أي: ازدادوا إيماناً بالله ورسوله والكتاب الذي أنزل عليكم.
قال: [فلو لم يكونوا مؤمنين لما قال لهم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، وإنما أراد بقوله ((آمِنُوا)): دوموا على إيمانكم وازدادوا إيماناً بالله وطاعة، واستكثروا من الأعمال الصالحة التي تزيد في إيمانكم، وازدادوا يقيناً وبصيرة، ومعرفة بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وقد يقول الناس بعضهم لبعض مثل ذلك، في كل فعل يمتد ويحتمل الازدياد فيه، كقولك للرجل يأكل: كل، تريد: زد أكلك]، أي: وهو في حقيقة الأمر يأكل؛ لكنك تطلب منه مزيداً من الأكل، أو اشرب يا رجل، وهو يشرب مثلاً (شاي) فتريد منه أن يشرب الآخر، أي: ازدد شرباً.
وهذا في الأمر الذي لا منتهى له، والإيمان لا نهاية له، ولذلك مهما زاد فيه الإنسان يطالب بالزيادة، بخلاف الأمر الذي له نهاية، لو أن واحداً جالس فأقول له: اجلس، يقول لي: أنا جالس، وآخر قائم فأقول له: قم، يقول لي: أنا قائم، فالقيام له نهاية والجلوس له نهاية.
فالأمور التي لها نهاية لا يطالب المرء فيها بالمزيد، أما الأمر الذي لا نهاية له فالإنسان مهما استزاد منه يطالب بالزيادة، فأعظم مثل لذلك هو الإيمان.
قال: [فالإيمان لا منتهى له، وهو شيء لا يقبل الحد، حتى الأنبياء أنفسهم يطالبون بالزيادة، بدليل أن الله تعالى فضّل بعض الأنبياء على بعض، وإنما ذلك بالإيمان، ولا يجوز أن يكون ذلك في الأفعال المتناهية كما قلت.
قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:٢٥٣]] أي: بعض الأنبياء درجته فوق درجة بقية الأنبياء، بدليل أن تكليم الله عز وجل لبعض عباده شرف عظيم جداً، فالله عز وجل كلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، فإن لموسى عليه السلام منزلة عظيمة جداً، ولإبراهيم منزلة عظيمة بهذه الخلة، ونبينا عليه الصلاة والسلام فوق ذلك كله، وقد حباه الله تعالى بما لم يؤته أحداً من الأنبياء.
ولذلك فإن الجعد بن درهم أنكر أن الله تعالى كلم موسى تكليماً، كما أنكر أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، فأتى به خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحى، وبعد أن خطب خالد خطبة العيد نزل وقال: أيها الناس! ضحوا فإني مضح بـ الجعد بن درهم، ونزل من المنبر، وقال له: ألست الذي تزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً؟ قال: أعتذر أو أتوب، قال: هذا بينك وبين الله، والذي أمرنا به هو قتلك، وذبحه في أصل المنبر؛ لأن الذي يقول إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، لا بد أنه مكذب لله تعالى، ومكذب للرسول عليه الصلاة والسلام، ومكذب للصحابة الذين نقلوا إلينا هذا الكلام الرباني الإلهي.
وهذا الرجل اختلف أهل العلم فيه، فمنهم من قال: إنما قتله القسري درءاً لفتنته، ولئلا يتمثل به أحد، ومنهم من قال: بل يكفر بذلك، وإنما قتله خالد ردة، وهذا الذي يترجح لدي.