وقال كلاماً كثيراً جداً مفاده وتلخيصه: أن للفعل وجهين: الأول: وجه قائم بالرب تعالى، وهو قضاؤه وقدره له، وعلمه به، وأن الله تعالى علم أن عبده سيفعل كذا، ويختار الشر على الخير، ويقدم عليه، ويتلبس به، فلما علم الله تعالى من عبده ذلك أزلاً قدره عليه، أي: كتبه، لا أنه جبره على المعصية، وإلا فلو كان العبد مجبوراً على المعصية فلم أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دائماً؟ هذا هو الوجه الأول، وهو متعلق بالله تعالى.
الثاني: وجه قائم بالعبد، وهو ما يصدر عنه من أفعال وكسب، وهذه المنزلة هي المنزلة الرابعة من منازل القدر.
ومنازل القدر أربعة: المنزلة الأولى: منزلة العلم، أي: أن العلم الأزلي ثابت لله تعالى، فعلم الله ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون.
المنزلة الثانية: منزلة الكتابة، أي: لما علم الله تعالى ذلك أزلاً كتبه وقدره، فهو مكتوب عنده في اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، الذي لا يأتيه زيادة ولا نقصان.
المنزلة الثالثة: منزلة الإرادة أو المشيئة.
المنزلة الرابعة: منزلة الخلق، أي: أن الأفعال خيرها وشرها بإذن الله تعالى وإرادته، ومشيئته من جهة الخلق والإيجاد، أما من جهة الكسب والفعل فإن العبد هو الذي يكسب الخير والشر، فمثلاً: القتل من جهة الخلق والإيجاد فالله تعالى هو الذي خلق وأوجد، والفعل فعل هذا العبد، وذلك لما أخذ السكين وانطلق إلى غريمه فقتله، وكل ذلك ما وقع إلا بعلم الله، وإرادة الله، ومشيئة الله، وإيجاد الله لهذا الفعل، وإلا فلا يستطيع أحد أن يتحرك حركة إلا بإذن الله، ولا يسكن سكنة إلا بإذن الله تعالى، لكن من الذي باشر القتل؟ من الذي أراق الدم؟ إنه العبد، إذاً هذا الفعل سواء كان خيراً أو شراً حتى لو كان صلاة التي هي رأس العبادات، لو شاء الله لك ألا تصلي، لكنك لو تركت الصلاة فإنما يقول: إنما ذلك وقع منك بقدر الله الكوني القدري لا الشرعي الديني؛ لأنه في الشرع وفي الدين أمرك بالصلاة، وأنت اقترفت النهي وارتكبت الإثم بترك الصلاة، وكذلك القتل، فقد وقع منك من جهة الكسب والفعل، فأنت الذي باشرت هذا القتل، لكنه من جهة الخلق والإيجاد والإذن في الوقوع في الكون كل ذلك من الله عز وجل.
ولذلك يقول هنا: فكل فعل له وجهان: وجه قائم بالرب تعالى، وهو قضاؤه وقدره، وعلمه به سبحانه وتعالى.
ووجه قائم بالعبد، وهو ما يصدر عنه من أفعال، والعبد له ملاحظتان كما سيأتي.
إذاً: اتفقنا أن ما يقع في الكون من أقوال وأفعال لها وجهان: وجه متعلق بالرب تبارك وتعالى، ووجه متعلق بالعبد، من أجل ألا تقول بعد ذلك: أنا مسير في فعل هذا الفعل، والسؤال هذا دائماً يطرح كثيراً: هل أنا مسير أم مخير في أقوالي وأفعالي؟