[إيمان أهل الجاهلية ومن بعدهم من الأعراب بالقدر]
قال: [وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: أهل السماوات والأرضين من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين، ومن دونهم من الخليقة أعجز في حيلتهم، وأضعف في قوتهم من أن يحدثوا في ملك الله عز وجل وسلطانه طرفة بعين، أو خطرة بقلب، أو نفساً واحداً من روع من لم يشأه الله لهم، ولم يعلمه منهم، ولقد أذعنت الجاهلية الجهلاء بالقدر].
أي: حتى أهل الجاهلية قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يؤمنون بالقدر، وكذلك المجوسية يعلمون قضية القدر، وأما فرقة القدرية التي تنسب إلى الإسلام فليست أفهم من هؤلاء أصحاب الجاهلية والمجوس وعبدة البقر والأصنام، فإن القدرية أضل من هؤلاء جميعاً.
قال: [ولذلك قال بعض الرجاز من أهل الجاهلية: يا أيها المضمر هماً لا تهم إنك إن تقدر لك الحمى تحم ولو علوت شاهقاً من العلم كيف يوقيك وقد جف القلم] أي: لابد أنه واقع بك ما كان مكتوباً في اللوح المحفوظ.
قال: [وأتى علي بن أبي طالب رجل فشكا إليه تعذر الأشياء، والتياث الدهر عليه -اختلاطه عليه- فتمثل علي رضي الله عنه بهذه الأبيات: فإن يقسم لك الرحمن رزقاً يعد لرزقه المقضي بابا وإن يحرمك لا تسطع بحول ولا رأي الرجال له اجتلابا فقصر في خطاك فلست تعدو بحليتك القضاء ولا الكتابا].
أي: ما كان مقضياً مكتوباً لك فسيأتيك، فتمهل في طلبه.
قال: [وكتب الخليل بن أحمد إلى سليمان بن علي: أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى غير أني لست ذا مال سحى بنفسي أني لا أرى أحداً يموت هزلاً ولا يبقى على حال فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه ولا يزيدك فيه حول محتال وقال بعض الشعراء: هي المقادير فلمني أو فذرني إن كنت أخطأت فما أخطا القدر] وهذا شعر جاهلي، أي: إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر، وانظر وقارن بين قول هذا الجاهلي وبين هذا الذي ينسب إلى الإسلام، والذي يقول قولاً قبيحاً، وشركاً وكفراً صريحاً.
[وقال لبيد بن ربيعة] وهو صاحب إحدى المعلقات، وقد أسلم، وهو صاحب البيت المشهور: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل فقال ابن عباس عندما سمع قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل: صدق، ولما قال: وكل نعيم لا محالة زائل: قال: كذب، فنعيم الجنة لا يزول.
ولبيد كان يقصد أن كل نعيم من نعيم الدنيا سيزول، فهو على قصده، والمعنى في بطن الشاعر كما يقولون، وهو صادق فيما أراد، لكن ابن عباس كان أدق منه.
[قال لبيد: إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي وعجل من هداه سبل الخير اهتدى ناعم البال ومن شاء أضل].
إذاً: الهداية والضلال بيد الله عز وجل.
قال: [وقال النابغة الذبياني -وهو شاعر جاهلي-: وليس امرؤ نائلاً من هواه شيئاً إذا هو لم يكتب].
أي: مهما يهوى المرء شيئاً فإنه لا يأخذه مادام أنه لم يكتب في اللوح المحفوظ.
قال: [وهناك نص عن رجل يذكره الأصمعي، لكن هذا النص عندي فيه بعض الشيء، [قال الأصمعي: وقع الطاعون بالبصرة، فخرج أعرابي فاراً منه على حمار له- أي: يهرب من الطاعون- فلما صار في جانب البر سمع هاتفاً -أي: صوتاً من بعيد- يقول: لن يسيق الله على حمار والله لا شك إمام الساري فرجع الأعرابي إلى البصرة وهو يقول: قدر الله واقع حين يقضي وروده قد مضى فيه علمه وانقضى ما يريده وأخو الحرص حرصه ليس مما يزيده فأرد ما يكون إن لم يكن ما تريده وقال الفرزدق: ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار وكانت جنة فخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار ولو منت بها كفي ونفسي لكان علي للقدر الخيار].
وهناك أشعار كثيرة في القدر لأهل الجاهلية وغيرهم.