[اختلاف حكم الدنيا عن الآخرة بالنسبة لذراري الكفار]
أي: عندما يأتي الآن كافر فإننا نقول: إن ابنه هذا تبع له في أحكام الدنيا، فلو أسلم الرجل الكافر فلا شك أن أبناءه يأخذون حكمه، فمثلاً: عندما يأتي نصراني ويقول: أريد أن أسلم، فنسأله: ألديك أولاد؟ فيجيب: نعم، فنقول: كم أعمارهم؟ قال: ولد عمره سنة، وولد عمره ثلاث سنين، وولد عمره خمس سنين، فنقول له: تعال وأشهر إسلامك، فأول ما يشهر إسلامه يأخذ أبناؤه حكم الأب، وبالتالي فالحكم عندنا يختلف، فهل اختلف موقف هؤلاء الأولاد عند الله؟ لا، إذاً: فمحل النزاع والخلاف في الآخرة، ولذلك الخلاف في أن أبناء المشركين مسلمون أو غير مسلمين من أحكام الدنيا، والخلاف فيها نادر جداً، وإنما الخلاف القوي بين علماء السنة: هل هؤلاء الأطفال في الجنة أم في النار؟ وهذا الخلاف من أحكام الآخرة، والأمة مجمعة على أن الأولاد تبع لآبائهم في الأحكام، يعني: أن الرجل هذا نصراني، إذاً هؤلاء الأولاد نصارى، فهذا فيما يتعلق بأحكام الدنيا، أما الآخرة فلا، إذ إن لها وضع آخر، وهنا يأتي الخلاف ويحتد ويقوى جداً، أما في الدنيا فلا، فهذا الولد إذا مات فالذي يكفنه ويغسله ويصلى عليه ويرثه هو أبوه؛ لأن هذه أحكام الدنيا، فالدنيا لها أحكام والآخرة لها أحكام أخرى.
وهذا كما أخبر الله عز وجل نبيه بأعيان المنافقين وأسمائهم، ومع هذا كان إذا مات واحد منهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عليه، ولذلك لما جاء إليه مشرك وقال له:(يا محمد! أريد أن أقاتل معك، قال: أمسلم أنت؟ قال: لا، قال: ارجع فلن نستعين بمشرك)؛ لأن أحكامه ظاهرة، فهو يقول: أنا مشرك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يمكن أن نستعين بمشرك، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأذن للمنافقين معلومي النفاق بالاشتراك في القتال؛ لأنهم أظهروا الإسلام، مع أنه لم يخف على النبي عليه الصلاة والسلام أنهم كفار، وأن مردهم إلى قعر جهنم، ولذلك فالمنافقون تحكمهم في الدنيا أحكام، وفي الآخرة لهم أحكام أخرى، وكذلك العكس، يعني: أن أبناء المشركين والكفار تحكمهم في الدنيا أحكام، وهي أحكام الكفر تبعاً لآبائهم، وأما في الآخرة فهم في الجنة بإذن الله تعالى، أو على ما سنذكر من الخلاف بإذن الله.
ومن أحكام هؤلاء: أن الرجل النصراني إذا أسر في الحرب واسترق كان ابنه تبعاً له في الحكم، يعني: يصير رقيقاً هو كذلك، ولو كان مسلماً لما جاز استرقاقه.
هذه حجة ابن بطة ومن معه هذا مذهب هؤلاء الأئمة رحمهم الله تعالى، ولكن كثيراً من الأئمة رجح خلاف ما ذهبوا إليه في تفسير معنى الفطرة، وعندما قرأتم كلام أبي يعلى أو كلام قتيبة أو كلام ابن بطة قلتم: والله هؤلاء عندهم حق، وهذا كلام جميل جداً ومعقول، ولا يمكن رده، وأنا أقول: بل لابد من رده، فهو المذهب الضعيف في المسألة، وهذه الحقيقة يا إخواني! حلاوة الفقه، أو حلاوة مسائل الخلاف، ولذلك العلماء كانوا يقولون: لا يحل لأحد أن يفتي الناس إلا إذا علم مسائل الخلاف.
فأنت عندما تقرأ في: فقه السنة مسألة من المسائل تجد مثلاً الشيخ سيداً رحمه الله رجح مذهباً واحداً، وأحب أن يخرج من الخلاف ويضع الشباب على الرأي الراجح، لكن هذا الرأي الراجح هو راجح عنده، فلو قرأنا كلام ابن بطة فقط فسيترجح لدينا، ونقول: نحن فعلاً كنا على الضلال والانحراف والزيغ كل هذه السنين! وأنا عندما قرأت من قبل كلام الإمام النووي في شرح مسلم، وكلام الحافظ ابن حجر في الفتح فيما يتعلق بهذه المسألة كان كالكلام المسلّم، وبعد ذلك عندما قرأت كلام ابن بطة -وكان هذا منذ أكثر من عشر سنوات- قلت: كيف هذا؟ أنا أفهم أن الفطرة هي الإسلام، أهذه الأوصاف كلها في؟! أي: الضلال والزيغ والانحراف، والناس الذين قلت لهم: إن الفطرة هي الإسلام كيف أصحح لهم هذا الخطأ؟ فلابد في المسائل الخلافية من النظر في جميع الأقوال، وتتبع أدلتها والترجيح بينها، والخروج بالقول الراجح، ولا يكتفى بمعرفة قول واحد فقط دون معرفة بقية الأقوال.