للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رد المؤلف على مذهب القائلين بأن الفطرة هي الإسلام]

قال: [ولو كان الأمر على ما تأولته الزائغون أن كل مولود يولد على الفطرة -أي: دين الإسلام وشرائعه- لكان من سبيل المولود من اليهود والنصارى إذا مات أبواه وهو طفل ألا يرثهما، وكذلك إن ماتا لم يرثاه؛ لما عليه الأمة مجمعون أنه لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، وقد كان من سبيل الطفل من أولاد أهل الكتاب إذا مات في صغره أن يتولاه المسلمون، ويصلوا عليه، ولا يدفن إلا معهم وفي مقابرهم].

أي: أنه يريد أن يقول لك: لو كان النبي والصحابة يفهمون أن الفطرة هي الإسلام لأخذوا أولاد المشركين بعد موتهم وصلوا عليهم، وأجروا عليهم أحكام الإسلام، لكن لما لم يفعل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه الكرام دل على أن الفطرة ليست هي الإسلام، وإنما هي ابتداء الخلق، وأخذ الميثاق على العباد.

قال: [فإن كان الحكم في معنى هذا الحديث كما تأولته القدرية -وليس هو كذلك والحمد لله- فقد ضلت الأمة، وخالفت الكتاب والسنة حين خلت بين اليهود والنصارى وبين الأطفال من المسلمين].

أي: لو كان الأمر كذلك -أن الفطرة هي الإسلام- فقد أجمعت الأمة على الضلال؛ لأنها مكنت اليهود والنصارى والمجوس والمشركين من دفن أبنائهم، وفي حقيقة الأمر هم منا، لكن هذا محال، فالأمة لا يمكن أبداً أن تجتمع على ضلال.

قال: [يأخذون مواريثهم ويلون غسلهم والصلاة عليهم والدفن لهم، لكن المسلمين مجمعون، وعلى إجماعهم مصيبون: أن من مات من أطفال اليهود والنصارى والمجوس ورثه أبواه وورث هو أبويه، ووليا غسله ودفنه، وأن أطفالهم منهم ومعهم وعلى أديانهم -أي: في الدنيا-، وإنما قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) إنما أراد أنهم يولدون على تلك البداية التي كانت في صلب آدم عليه السلام من الإقرار لله بالمعرفة، ثم أعربت عنهم ألسنتهم ونسبوا إلى آبائهم، فمنهم من جحد بعد إقراره الأول من الزنادقة الذين لا يعترفون بالله ولا يقرون به، وغيرهم ممن لم يبلغه الإسلام في أقطار الأرض الذين لا يدينون ديناً، وسائر الملل، فهم يقرون بتلك الفطرة التي كانت في البداية، فإنك لست تلقى أحداً من أهل الملل -وإن كان كافراً- إلا وهو مقر بأن الله ربه وخالقه ورازقه، وهو في ذلك كافر حين خالف شريعة الإسلام].

ونخلص من ذلك كله إلى أن ابن بطة عليه رحمة الله فسر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) أي: على أصل الخلق الذي خلقه الله تعالى عليه؛ حين أخذ العهد والميثاق عليه لما أخرجه كالذر من صلبه أبيه آدم، ففسر الفطرة بالابتداء، وأن الله تعالى أخرج الذرية من ظهور آبائهم، وأخذ عليهم الميثاق: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى))، فهم يقرون بربوبية الله عز وجل، ثم تجد بعد ذلك من يجحد ويكفر ومن يؤمن.

ثم يستدل على صحة هذا التفسير [بما رواه الحجاج بن منهال عن حماد بن سلمة قال: هذا عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم، قال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى))].

إذاً: ابن بطة لم يأت بكلام من عنده، وإنما له سلف في هذه المسألة، وسلفه فيها هو حماد بن سلمة، ومثل قول حماد قال قتيبة رحمه الله تعالى.