قال الشيخ ابن بطة رحمه الله يشرح موقف السلف القديم الذي ذكرناه هذا:[فإن قال قائل: قد رويت أحاديث في الإمساك عن الكلام في القدر والنظر فيه، ومع هذا فقد روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام وعن جماعة من التابعين وفقهاء المسلمين أنهم تكلموا فيه]، فكأن الإمام ابن بطة عليه رحمة الله يقول: ظاهر النصوص في باب القدر فيها تضارب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن القدر ونهى عن الكلام في القدر، والصحابة نهوا عن القدر وتكلموا في القدر، وكذلك التابعون وأتباع التابعين وفقهاء المسلمين نهوا عن الكلام في القدر ومع هذا تكلموا فيه، بل صنفت كتب كثيرة جداً في القدر، منها ما كان بأيدي سلفنا رضي الله عنهم، ومنها ما هو بيد المعاصرين لـ ابن بطة أو حتى ممن جاء بعد ابن بطة، فظاهر الكلام التضارب والتعارض، وأنتم تعلمون إذا كان الله تعالى نهانا عن الكلام في القدر وتكلم فيه، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان قد نهانا عن القدر وتكلم فيه فلا شك أن مشكاة الوحي واحدة، وإذا كانت مشكاة الوحي واحدة ومصدرها السماء، والكلام كلام الله عز وجل فلا يمكن أن يكون فيه تضارب ولا تعارض:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}[النساء:٨٢].
فلما لم يكن فيه أدنى اختلاف كان ذلك يقيناً أن هذا الكلام من عند الله عز وجل، أما هذا الكلام الذي ظاهره التعارض فمآله إلى ما يسمى عند أهل العلم بتأويل مختلف الحديث، وتأويل ما ظاهره الاختلاف وليس الائتلاف، فإذا كان الأمر كذلك فقد قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى وهو سيد المسلمين وشيخ المحدثين في زمانه: أشهد أنه ما بين نصين وردا عن الله ولا عن رسوله عليه الصلاة والسلام أدنى تعارض، ومن وجد شيئاً من ذلك فليأتني به لأؤلف له بينهما.
فلا تعارض قط بين نصوص الوحي خاصة إذا كانت صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان قد ورد في القدر إباحة الكلام فيه والنهي عن الكلام فيه، وكذلك الصحابة وكذلك النجوم فمآل ذلك إلى التأويل.