للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوله تعالى: (إن الله يحب المقسطين)، وقوله: (وأما القاسطون)]

المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:٤٢]، وقال في آية أخرى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:١٥]، فكيف يجعل الله تعالى القاسطين لجهنم حطباً، مع أنه أخبر أنه يحبهم؟! حتى تعلم أن أصحاب البدع دائماً جهلة بأصول اللغة، فهم أجهل من دوابهم التي يركبونها؛ لأن المقسط غير القاسط، فالله عز وجل أثبت أنه يحب المقسطين، وأثبت أن القاسطين هم حطب جهنم، فهم قالوا في هذا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟ واعلم أنه ما من صاحب بدعة يجتهد عليك، ويشكك فيما أنت فيه إلا من واقع هذه الأمثلة، وإذا كان الحق واحداً، فالذي تسمعه في القرن الأول الهجري ستسمعه في اليوم الذي يسبق قيام الساعة، والكلام الذي نقوله نحن الآن أخذناه من أسلافنا، وليس من أقوالنا نحن.

وكذلك أنتم تبلغونه عني، وغيركم يبلغه عنكم، وهكذا؛ لأن الحق واحد لا يتعدد.

وأهل الباطل كذلك لهم شبهات وأهواء ومشارب فاسدة يتلقونها واحداً عن واحد، وخلفاً عن سلف، ولذلك انظر لأي إنسان من أهل البدع والأهواء، وقل له: هات ما عندك، فوالله لا يستطيع ولا يقوى أن يذكر لك شبهة لم يقل بها أحد من أسلافه، بل لا بد أن يذكر ما تقدمه به أسلافه، فلا تزال الشبة هي هي، ولا يزال الحق هو هو، فهذا له أبناؤه، وذاك له أبناؤه.

ولذلك عمد العلماء من أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان ألا يجيبوا عن أسئلة أهل البدع إذا كان ذلك الأمر يطرح على الملأ، وقد سأل واحد من أهل الأهواء والبدع مالكاً في مسألة فأطرق ولم يرد، فأعاد عليه، فأطرق ولم يرد، فأعاد عليه؛ فقال: يا فلان! سل تعلماًَ ولا تسأل تعنتاً، أي: أن الذي يمنعنا من الرد عليك ليس هو العي والجهل والعجز، وإنما أمرنا أن نضع العلم في أهله، فإن كان صاحب هوى لا يتكلم إلا في الفتن والشبهات وغير ذلك؛ فهذا خليق وجدير بأن لا يعلَّم، ودولة الحق إلى قيام الساعة، والباطل عمره ومدته ساعة من زمان، فلا يصبر عليه صاحبه، وإنما تمل نفسه سريعاً، ولذلك أنا دائماًَ أوصي نفسي والآخرين على القوة والمتانة في حمل الحق والدعوة إليه بالليل والنهار؛ لأن أهل الباطل في هذا الزمان انتفشوا بصورة لم يسبق لها مثيل؛ لغياب الحاكم بهذا الدين وبهذه الشريعة، فتكلم كل ناعق بما عنده، ونضح كل قدر بما فيه، وأهل الحق قلَّ منهم من يتكلم، وهذه مفارقة عجيبة جداً، جديرة بأن تنزل عليهم من السماء صاعقة، لا أصحاب الباطل فحسب، بل تبدأ هذه الصاعقة بنا أهل الحق؛ لأن كثيراً منهم يعرف الحق ولا يتبعه، ويعلم أن هذا منكر ولا يجتنبه.

قال الإمام: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:١٥]، أي: العادلون بالله الجاعلون له عدلاً من خلقه، فيعبدونه مع الله؛ ولذلك المقسط هو العدل، يقال: أقسط يُقْسِط فهو مقسط إذا عدل، وقسط يَقْسِط فهو قاسط إذا جار، فالقسط هو الجور والعدول عن الحق، والقاسطون هم الجائرون المائلون العادلون عن الحق.

وكنا من قبل نسمع: (يد القاسط في النار وإن عدل)، وهو حديث موضوع.

وليس في كتب الموضوعات، بل نحن الذين وضعناه، فالذي وضعه شخص منا، ومعناه في الحقيقة: وإن عدل عن الحق، فالكلام في هذا المتن مستو، لكن السند إلى النبي عليه الصلاة والسلام غير صحيح.

فقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:٤٢]، أي: العادلين القائمين بالحق وعلى الحق.

وقوله: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:١٥]، أي: المائلون عن الحق، وبذلك تنتهي هذه الشبهة.