[آثار السلف في التحذير من مجالسة أهل الأهواء وسماع كلامهم]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قد أعملتك يا أخي عصمني الله وإياك من الفتن، ووقاني وإياك جميع المحن؛ أن الذي أورد القلوب حمامها، وأورثها الشك بعد اتقائها، هو البحث والتنقير، وكثرة السؤال عما لا تؤمن فتنته، وقد كفى العقلاء مؤنته، وأن الذي أمرضها بعد صحتها، وسلبها أثواب عافيتها، إنما هو من صحبة من تغر إلفته، وتورد النار في القيامة صحبته، أما البحث والسؤال فقد شرحت لك ما إن أصغيت إليه -مع توفيق الله- عصمك، ولك فيه مقنع وكفاية.
وأما الصحبة فسيرجع عليك بالنفع طالما إن تمسكت به نفعك، وإن أردت الله الكريم به وفقك، قال الله عز وجل فيما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم وحذره منه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:٦٨].
ثم أذكره ما حذره، وأعاد له ذكر ما أنذره فقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:١٤٠].
عن مجاهد في قوله تعالى: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام:٦٨]، قال: يستهزئون، نهى الله عز وجل محمداً أن يقعد معهم إلا أن ينسى، فإذا تذكر فليقم، وذلك قوله: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:٦٨].
وعن قتادة بن دعامة البصري في قول الله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:٦٨] قال: نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذبون بها، وإن نسي وقعد فلا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
وعن ابن عون قال: كان محمد بن سيرين يرى أن أسرع الناس ردة هم أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية أنزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام:٦٨].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)]، والخليل: هو الصديق والصاحب.
قال: [وعن عطاء قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: لا تجالس أهل الأهواء؛ فإنهم يحدثون في قلبك ما لم يكن فيه].
أي: أن لهم تأثيراً شديداً كالسحر في الخلق، فإذا دخل شيء من كلامهم وأهوائهم في قلب المرء أفسده، فنسأل الله عز وجل أن يحفظك منه.
[وعن طلحة قال: سمعت خصيفاً الجزري يقول: أشهد أن في التوراة مكتوباً: يا موسى! لا تجادل أصحاب الأهواء؛ فيمرضوا عليك قلبك بما يرديك فيدخلك النار.
وعن محمد بن النضر الحارثي قال: بلغنا أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى بن عمران عليه السلام: أن كن يقظاناً -أي كن حذراً متيقظاً- مرتاداً بنفسك أخداناً، فكل خدن لا يواتيك على مسرتي فاحذره].
أي: كل صاحب لك لا يصحبك على ما يحبه الله عز وجل، فلا تصاحبه؛ فإنه لك عدو، وهو يقسي قلبك.
وعن عطاء قال: بلغني أن فيما أنزل الله على موسى: لا تجالس أهل الأهواء فيحدثوا في قلبك ما لم يكن فيه.
وقال أبو قلابة -وهو عبد الله بن زيد الجرمي الإمام البصري الكبير-: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما تعرفون].
أي: أن مجرد المجالسة له ولو مرة واحدة أنت منهي عن ذلك؛ فضلاً عن مناظرته ومجادلته وخصومته وغير ذلك، فمن باب أولى ألا تفعل ذلك؛ س لأن السلف لم يأمنوا علينا إذا فعلنا ذلك أن ننغمس في البدعة، وأن نتقرب من هواهم، أو يلبسوا علينا، أو يضعونا في دائرة الشك في الثوابت التي لدينا ومنها: شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وشفاعة الشافعين جميعاً، فهذه عقيدة استقرت في قلوب العامة والخاصة، حتى إن عامة الناس إذا تحدثوا قال بعضهم لبعض: صلوا على النبي، فهذه عقيدة مستقرة لدى العامة أن النبي عليه الصلاة والسلام شفيع لأمته، ووجد في الأمة من ينكر الشفاعة؛ لأن ثقافتهم إنما هي بالصحف والمجلات، ولم يتلقوا علمهم ودينهم من أهل العلم.
[وعن عمرو بن قيس الملائي قال: كان يقال: لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ قلبك.
وعن أبي قلابة قال: قال أبو الدرداء: من فقه المرء ممشاه ومدخله ومخرجه ومجلسه].
أي: من العلامات الدالة على فقه الرجل، وعلى عقله واستقامته: النظر إلى ممشاه، أي: مع من يمشي، ومع