[تفسير الإمام أحمد للفطرة في الحديث:(كل مولود يولد على الفطرة)]
أما الإمام أحمد بن حنبل فيقول: أنتم تقولون: هؤلاء القوم إذا احتجوا بأول النص فنحتج عليهم بآخرة، لا والله! وإنما نحتج عليهم كذلك بأول النص، وهذه الحجة أقوى.
والإمام أحمد بن حنبل كان أكثر إنارة في قلبه وبصيرته، فيقول: لا، بل بنفس الكلام والنص الذي تحتجون به أنا سأرد عليهم به.
ففسر رحمه الله تعالى قوله عليه الصلاة والسلام:(كل مولود يولد على الفطرة) أي: على السعادة والشقاوة السابقتين في علم الله تعالى في الأزل، ويكون إقراره بين يدي الله لما أخرجه من صلب أبيه آدم حجة عليه في الربوبية، ولذلك نجد أن المشركين الأولين كلهم كانوا مقرين بالربوبية، أي: بالخلق والابتلاء والرزق وغير ذلك، مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، فهم بذلك يعرفون هذه القضية.
ولذلك كانت المهمة العظمى والأولى في إرسال الرسل هي توحيد الإلهية، لأن الشرك وقع في الإلهية لا في الربوبية، بينما الأمة الآن وقعت في الشرك في الربوبية، ووصلت لمرحلة من الجاهلية لم يكن عليها أهل الجاهلية الأولى، فيقول أحدهم اليوم: يا فلان ارزقني! وأبو جهل لم يقل ذلك، وفلان هذا سيقطع رزقي، إذاً لابد أن أسمع كلامه! صحيح أن الخمر حرام، لكن مادام أن مديري في العمل قال لي: اشرب الخمر، إذاً لابد أن أشرب الخمر.
أو يقول: زميل لي أو مديري أو رئيسي نصراني، لكن عنده عرس فأحببت أن أجامله وأذهب إلى عرسه، فوضع الخنزير وأحرجت وأكلت منه، ووضعوا الخمر وأحرجت فشربت منها، يا أخي! لو أنك شربت السم في بدنك لكان خيراً لك، فقد جعلت الله تعالى أهون الناظرين إليك! قال الإمام أحمد: الفطرة هنا هي ما علمه الله تعالى أزلاً من عبده هذا من السعادة أو الشقاء، أي: أن الله عز وجل قبل أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون، وما هم إليه صائرون من السعادة والشقاوة، ففطر بعضهم على السعادة، وفطر بعضهم على الشقاوة، وليس هذا ظلماً للعباد؛ بدليل أن الله تعالى أرسل إليهم الرسل، وجعل لمن لم تبلغه الرسالة حكماً خاصاً.
كما جعل للمجانين والسفهاء ومن لم تبلغهم الدعوة، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء:١٥]، لكن كان من الممكن أن يقول الله عز وجل: إنما أكتفي بالسعادة والشقاوة بالميثاق الأول، ولو فعل لكان عادلاً في ذلك، ولكن الله تعالى علم أزلاً أن جميع العباد ينسون هذا الميثاق، فأرسل الأنبياء والمرسلين؛ يذكرون العباد والخلق بما أخذ عليهم في صلب أبيهم آدم.
إذاً: فمهمة الأنبياء هي تذكير العباد بهذا الميثاق الغليظ الذي أخذه الله تعالى على عباده وهم في صلب أبيهم آدم.
ففسر الإمام أحمد الفطرة بالسعادة والشقاوة السابقتين في علم الله تعالى في الأزل، المكتوبتين عنده في أم الكتاب قبل أن يخلق الجنين، وبعد أن خلق في بطن أمه؛ لأن القدرية تنكر الفطرة بهذا المعنى مع ثبوتها بأدلة من الكتاب والسنة، فأراد الإمام أحمد أن يرد عليهم بتفسير الفطرة بهذا المعنى مع تفسير الفطرة أيضاً بمعنى الإسلام، ولا منافاة بين التفسيرين كما بينه ابن القيم عليه رحمة الله تعالى.