[موقف السلف من المرجئة وتخويفهم من معتقدهم]
قال: [وعن ابن أبي مطيع قال: شهدت أيوب وعنده رجل من المرجئة].
وأيوب هو أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري الإمام الكبير، والمرجئة يقولون في الإيمان إنه تصديق القلب، والعمل ليس من الإيمان، ولذلك دفعهم هذا إلى أن يقولوا لزاماً بهذا النص: إن إيمان أفسق الخلق كإيمان جبريل وميكائيل؛ لأن العمل لا علاقة له بالإيمان عندهم، فيستوي مع جبريل عندهم من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله وصدق بهذه الكلمة بقلبه، ولو ترك كل الأوامر وارتكب كل النواهي؛ فهذا إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، وهذا كلام دعاة الفساد والمجلات، فالعمل عندهم لا علاقة له بالإيمان البتة.
قال: [فجعل يقول: إنما هو الكفر والإيمان]، أي: أن هذا المرجئ يقول لـ أيوب إمام السنة في زمانه: الإنسان إما كافر! وإما مسلم، وليس هناك غير هذا.
قال: [وأيوب ساكت، فأقبل عليه أيوب فقال: أرأيت قول الله عز وجل: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة:١٠٦]]، فهذه الآية هل يمكن أن تكون نزلت في الكافرين؟ أليست المسألة كلها عند المرجئة إيماناً أو كفر؟ أيضاً هل هذه الآية موافقة للقواعد التي قعدها المرجئة لأصل مذهبهم، أم أن هذه الآية تشهد لمذهب أهل السنة والجماعة؟ ((وَآخَرُونَ))، أي: من الخلق ((مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ))، أي: يوم القيامة ((إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)).
ثم مستحيل أن هذه الآية في صفات الكفار؛ لأن الكفار في عذاب الله يقيناً، وأنه لا تلحقهم التوبة أبداً إذا ماتوا على الكفر، فهذه الآية وردت للعقوبة أو العفو عنهم يوم القيامة، وهل يكون عن الكافر عفو يوم القيامة؟ لا يمكن العفو عن الكافر يوم القيامة، وقد يأتي من يقول: أليس الله على كل شيء قديراً؟ بلى، ونحن مؤمنون بهذا؛ لكن الله عز وجل الذي هو على كل شيء قدير خلق الجنة وخلق النار، وجعل لكل منهما قسماً، وقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت! والله عز وجل أخبرنا أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، فإذا جاء شخص وقال: هل يمكن أن الله لا يجعل المنافقين في الدرك الأسفل من النار؟ نقول: نعم؛ الله عز وجل قادر على كل شيء، لكنه لما كان قادراً أخبرنا أنه بقدرته سيجعل المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
إذاً: هناك أمور تدل على المستويات الأخرى أبداً؛ لأن القرآن والوحي انقطع بموت النبي عليه الصلاة والسلام، فلا بد أن تستقر مسائل الإيمان والكفر في قلب العبد وذهنه.
فهذا النص: ((وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ)) معناه: مؤخرون بمشيئة الله عز وجل يوم القيامة، ((إما يعذبهم وإما يتوب عليهم)) أي: فإما أن يعذبهم بعدله، وإما أن يتوب عليهم ويغفر لهم ويدخلهم الجنة بفضله.
وهذه مسألة متعلقة بالعمل، ولذلك أرجأهم الله تعالى، وأخرهم إلى يوم القيامة، وهم في مشيئته، إن شاء عذب وإن شاء غفر، وهذا بسبب أعمالهم المخالفة لأوامر الشرع، وارتكابهم لما نهى عنه الشرع.
فهم في مشيئة الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، وإنما كان ذلك بسبب أعمالهم، إذاً: هذا العمل متعلق بالإيمان.
[قال أيوب: أمؤمنون أم كفار؟] أي: هل هذه الآية أنزلت في المؤمنين أم في الكفار؟ [فسكت الرجل.
فقال له أيوب: اذهب فاقرأ القرآن، فكل آية فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي].
أي: أنه يخاف أن يكون من أهلها، لكن ليس صحيحاً أن يعتقد أنه من أهل النفاق.
يأتي أخ يقول لك: والله العظيم أنا منافق، طيب هذا النفاق هل هو أكبر أم أصغر؟ يقول لك: أكبر.
إذاً: لماذا لا تتوب إلى الله عز وجل؟ يقول لك: أنا يئست! أقول: فماذا ستعمل؟ يقول: أنا من أهل النار فلن أعمل إذاً! فهو يوطن نفسه على أن يترك طاعة الله عز وجل ثم يقع في معاصيه، وهذا على أية حال خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة.
قال: [وقال ابن أبي مليكة: قد أتى علي برهة من الدهر وما أراني أدركت رجلاً يقول: أنا مؤمن].
أي: أن ابن أبي مليكة قد أدرك عدة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يجد أحداً منهم يقول: أنا مؤمن، وإنما رجل يخاف على نفسه من النفاق.
قال: [وما أراني أدركت رجلاً يقول: أنا مؤمن، فما رضي بذلك حتى قال: إيماني مثل إيمان جبريل].
وهذا يخوف المرجئة، إذ يقول: حينما لقيت الصحابة كلهم لم أجد فيهم أحداً قال: أنا مؤمن، وإنما كان كلهم خائف على نفسه من النفاق، وأنت غارق في المعاصي وتقول: أنا مؤمن وتتبجح بذلك، كما تترك الأوامر وتقع في النواهي وتزعم أنك مؤمن! هذا شيء عجيب جداً، وليس عليه مذهب السنة.
قال: [وما كان محمد صلى الله عليه وسلم يتفوه بذلك، وما زال الشيطان يتقلب بهم حتى قال: مؤمن وإن نكح أمه وأخته وابنته!] أي: أن نكاح الأم والبنت والأخت عندهم معاص، وعندهم أن صاح