[كلام الإمام الخطابي في حديث احتجاج آدم وموسى]
قال الإمام الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى: القدر من الله والقضاء منه معنى: الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، أي: أنه يقول لك: انتبه أن تفهم قول آدم عليه السلام: (أتلومني على أمر قدره الله)، أن هذا فيه لغة الجبر من الله على هذه المعصية، لا، وإلا ستكون جبرياً من الفرق الهالكة الضالة.
قال: ويتوهم أن فلج آدم في الحجة على موسى إنما كانت من هذا الوجه، يعني: ليس معناه أنه يقول له: أنت تلومني على أمر وأنا مجبور عليه، فليس في المسألة جبر.
قال: وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه وإنما معناه: الإخبار عن تقدم علم الله في الحال بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم -انظر الكلام الجميل- فهو يقول له: يا موسى! الأمر الذي وقعت فيه قد سبق في علم الله أني سأعمله، وأني سأرتكبه.
وهنا آدم أثبت مرتبة العلم لله عز وجل، ومرتبة الكتابة كذلك؛ فآدم كان يؤمن بمراتب القدر.
قال: وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه بما يكون من أفعال العباد ومعاصيهم وصدورها عن تقدير منه، وخلق لها خيرها وشرها.
يقول لك: وصدور هذه الأفعال وإن كانت معاصي لكنها لا تصدر إلا بخلق وإيجاد الخالق سبحانه وتعالى، يعني: هذا الشر الذي وقع إنما وقع بإذن من الله، وإيجاد من الله، وخلق من الله، لكن المكتسب للشر، والذي قارف الشر بيده هو العبد، إذاً الشر يقع في الكون من العباد كسباً، ومن الخالق إذناً وإيجاداً وخلقاً.
قال: والقضاء في هذا معناه: الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:١٢] أي: فخلقهن، إذاً: القضاء الذي قضاه الله تعالى على آدم أو قدره على آدم بمعنى: أذن الله تعالى في خلقه وإيجاده، لكن الذي اكتسبه هو العبد.
ولو كان المكتسب والمباشر لهذا الشر عياذاً بالله هو الله عز وجل لما احتاج آدم إلى التوبة؛ لأنه في الحقيقة لم يفعل شيئاً، فمن ماذا يتوب وهو لم يذنب؟ {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:٣٧]، والمعلوم أن التوبة تكون من الذنب، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم، أي: إذا كان علم الله سبحانه وتعالى أزلياً سابقاً، فلا يبقى إلا أن يكتسب العباد أفعالهم وأقوالهم، وحركاتهم وسكناتهم الموافقة لعلم الله الأزلي، فهو يريد أن يقول له: ما فعلت إلا شيئاً وافق علم الله الأزلي وكتابة الله تعالى الأزلية.
قال: وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم، ومباشرتهم تلك الأمور، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم إرادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلحقهم عليها، أي: ومع هذا يلامون، ويوبخون، وجماع القول في هذا الباب -أي: خلاصة الأقوال في هذا الباب-: أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه.
انتبه من هذين الأمرين: أمر يسمى: الأساس، وأمر يسمى: البناء، والأساس هو علم الله عز وجل، والبناء هو أفعال العباد المطابقة لعلم الله الأزلي.
وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى أن الله سبحانه إذ كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه، وأن يبطله بعد ذلك؟ إذا كان سبق في علم الله الأزلي أن آدم سيأكل من الشجرة فلا بد أن يوافق فعل آدم ما سبق في علم الله أنه سيأكل، ولو تحرى آدم والخلق أجمعون المخالفة لعلم الله الأزلي السابق لا يقدرون على ذلك ولا يستطيعونه، ومع هذا فليس لهم حجة في أن يحتجوا بهذا على القدر إلا بعد التوبة.
قال: وبيان هذا في قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠]، فأخبر قبل كون آدم أنه إنما خلقه للأرض، لكن لما خلق آدم، هل خلق في الجنة أو في الأرض؟ في الجنة، إذاً سبق علم الله عز وجل بأن آدم سيخرج من الجنة إلى الأرض، وأخبر الملائكة بذلك، وعليه فعلم الله أزلي، وأنه لا يتركه في الجنة حتى ينقله عنها إليها -أي: إلى الأرض- وإنما كان تناوله من الشجرة سبباً لوقوعه إلى الأرض التي خلق لها، وليكون فيها خليفة ووالياًَ على من فيها، فإنما أدلى آدم عليه السلام بالحجة على هذا المعنى، ودفع لائمة موسى عن نفسه على هذا الوجه، فهو يريد أن يقول له: عملي هذا ما وافق إلا علم الله، فلم تلومني إذاً؟ ولذلك قال: (أتلومني على أمر قدره الله)، أي: كتبه الله علي قبل أن يخلقني، فإن قيل: فعلى هذا يجب أن يسقط عنه اللوم أصلاً، لكن إذا كان فعل آدم ليس فيه إلا موافقة علم الله الأزلي السابق، فإذاً لماذا فرض الإسلام؟ والجواب على ذلك: اللوم ساقط من قبل موسى، أي: أن الذي حصل لموسى ليس من باب اللوم، لكن النص صريح في اللوم: (أتلومني)، يعني: أن آدم فهم أن هذا لوم، قال: اللوم ساقط من قبل موسى، إذ لي