[حديث أبي أمامة الباهلي (لتنقضن عرى الإسلام) وبيان مظاهر ذلك في زماننا]
قال: [وعن أبي أمامة الباهلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة)].
ثم قال عياض: أتدرون ما نقض الصلاة؟ قالوا: لا نعلم، قال: رفع الخشوع.
والناظر في هذا الحديث الصحيح سيجد أنه ينطبق تمام الانطباق على أهل زماننا، فإن الإسلام ينقضي عروة عروة، وشيئاً فشيئاً، والعجب أنك إذا قرأت لعلماء السنة منذ خمسين عاماً مثلاً أو مائة عام وهم يذبون عن الإسلام وعن الإيمان، فيدافعون في وجوه أعداء السنة والقرآن، ويردون على المستشرقين أقوالهم وأفعالهم، ودس السم في العسل، تكاد تعجب إذا قرأت مثلاً لواحد مثل الشيخ أحمد شاكر وهو لم يمض على موته خمسين عاماً، فيرد على الملاحدة في زمانه؛ لأنهم تكلموا في فرعيات وجزئيات لا يكاد طالب العلم أن ينتبه لها، لكن انتبه لها العلماء أمثال الشيخ أحمد شاكر؛ لأن ملحداً أو زنديقاً أو منافقاً أو معادياً للإسلام وأهله أراد أن يغمز الإسلام غمزاً من طرف خفي وعلى استحياء، في جزئية الجزئية من دين الله عز وجل، لينظر الآن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إلى الطعن وخلع الثوابت من قلوب أبناء الإيمان وأهل الإسلام، والمسألة لا تحتاج بعد ذلك إلى استحياء، فكل كيد أو كل خنزير عنده طعن على الإسلام وأهله، سواء في الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج، أو القرآن، أو الرسول، أو السنة، أو في الله عز وجل؛ له أن يتقدم به الآن، وله أن يفعل بدين الله ما يشاء تحت ذريعة الإبداع، وحرية الفكر، وباب الأدبيات الراقية، والعقول النيرة.
ونحن نقول لهم: من باب الديمقراطية التي تؤمنون بها ونكفر نحن بها أيضاً؛ لأن الديمقراطية ما هي إلا ترك حكم الله عز وجل، وأن الشعب يحكم نفسه بنفسه.
فنحن على أية حال من باب الديمقراطية التي يؤمنون بها نقول لهم: أعطونا فرصة، فمن باب الأدب، ومن باب الديمقراطية، ومن باب الإبداع أن نفكر كما تفكرون، وأن نبدع كما تبدعون، وأن نستنير كما تستنيرون ونقول إنكم كفار! فهذا الإبداع الذي نملكه نحن؛ لأن الذي يسب الله تعالى ويسب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويقول إن القرآن كذا وكذا، وإن الرسول مزاجي! ويغمط النبوة والرسالة، ويطعن في شخصه عليه الصلاة والسلام؛ الذي يفعل ذلك كافر.
ثم بعد ذلك يظهر كتاب آخر بعد هذا الكتاب، يطالب باستئصال ثوابت الإسلام من قلوب المؤمنين، بالطعن في ذات الإله، وبالطعن في القرآن، ثم يقول: وهذا إبداع، وهذه أدبيات راقية قلَّ أن يصل إليها أحد من أهل العصر! ونحن نقول: لو تكرمتم أعطونا فرصة لنبدع مثلكم، لكن إبداعنا إيمان وكفر؛ ولذلك نحن نقول: ما وصلتم إليه إبداع، ونعم الإبداع هو في نظركم! وهو عندنا كفر بواح، وقائله كافر، والراضي به كافر، والمساعد على مثله كافر، فهذا الإبداع الذي عندنا، وليس إبداعكم أولى بنشره وبيانه ووضوحه من إبداعنا، فأعطونا مساحة نبدع فيها، ولا تجعلونا أكواماً على الأرصفة، فنحن لنا الحق في الإبداع مثلكم، لكن إبداعنا يقتضي تكفيركم وخلودكم في النار إن متم على ذلك، فهذا نوع إبداعنا، وكل واحد أعلم بإبداعه، وهو حر في إبداعه.
والعجب العجاب: أن الكلام من قبل كان في فرعيات وجزئيات الدين على استحياء وخجل، وكان يقال: هذا الكلام يمكن أن يصح ويمكن ألا يصح، يمكن أن يقصده قائله ويمكن ألا يقصده، أما اليوم فسب علني لكل ثوابت الإسلام! وتصور لو أن بعض السلف رضي الله عنهم -ولا أقصد بالسلف الشيخ أحمد شاكر الذي مات منذ خمسين عاماً ومن مات قبله وبعده بقليل- ظهر الآن ورأى هذا الإبداع في خلع مبادئ الإسلام من قلوب أبنائه، فماذا يقول؟ وكيف يكون موقفه؟! أما نقض الحكم فهو بلية البلايا، فالله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:٥٧]، أي: ليس الحكم لأحد إلا لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
وأما هذه الدول العربية والإسلامية التي استغنت عن الله وعن حكمه، وعن شرعه وعن قرآنه، فاستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، بل ليس بعد كلام الله كلام، ولا بعد كلام الرسول كلام، إنما هي حثالات عقول البشر التي لا يمكن أن تصلح من خرج بها، ومن ظن أنه أبدعها أولاً، فإنها والله لا تصلحه، وكنا من قبل نعتقد ما كان يملى علينا في الجامعات من أن هذه القوانين الغربية لا تصلح إلا في بلادها التي خرجت منها، وإننا الآن بعد أن رددنا هذا نقول: إن هذا من أنكر المنكر وأكثر الفساد، بل هذه البلاد الغربية لا يصلحها إلا كتاب الله عز وجل، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن القوانين الفرنسية والإنجليزية والأمريكية لا تصلح للتطبيق في هذه البلاد، بل لا يصلحهم إلا ما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام.
فهذا الحكم قد نقض منذ زمن بعيد، ولا أعلم بقعة على وجه الأرض الآن تطبق شرع الله عز وجل كما أراد الله، وكما أراد