[الشر المحض ليس في أفعال الله تعالى]
قال: [فهذا وما أشبهه فرض على المؤمنين الإيمان به -أي: هذا الذي قلناه وذكرناه فرض على أهل الإيمان أن يؤمنوا به- وأن يردوا علم ذلك ومراد الله تعالى فيه إلى الله، ولا ينبغي للمخلوقين أن يتفكروا فيه ولا يقولوا: لم فعل الله ذلك؟ ولا كيف صنع ذلك؟ وفرض على المؤمن أن يعلم أن ذلك عدل من فعل الله].
لأنك لو لم تثبت العدل في أفعال الله تعالى فلا بد أن تثبت الجور والظلم، والله تعالى منزه عن كل صفات النقص ومنها الظلم والجور.
قال: [لأن الخلق كله لله عز وجل، والملك ملكه والعبيد عبيده، يفعل بهم ما يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويشقي من يشاء، ويذمه على الشقاء]، أي: أن الله تعالى يشقي من يشاء، ومع هذا يذمه على الشقاء، فيريد الله تعالى به الشقاء إرادة كونية قدرية، الله تعالى يكره الكفر، ومع هذا خلقه، فالله تعالى يكره إبليس ويلعنه ومع هذا خلقه، فلا نقول: لم خلق الله إبليس؟ وكيف خلق الله إبليس؟ وما الحكمة من خلق الله لإبليس؟ الحكمة عظيمة جداً من خلق هذه الأشياء التي تضر ولا تنفع في نظر العبد، لكن نفعها كامن في حكمة الله عز وجل؛ ولذلك ليس من أفعاله تبارك وتعالى خلق الشر المحض، بل الشر الذي معه الخير.
كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والخير في يديك، والشر ليس إليك)، أي: والشر المحض ليس من أفعال الله عز وجل، لكن الشر الذي معه الخير من أفعاله سبحانه، فلو أن قاتلاً قتل، ثم أقمنا الحد على القاتل بالقصاص، فأزهقنا روح الرجل، فكان في ذلك العبرة العظمى لكل من سولت له نفسه أن يقتل، فإنه سيفكر مليون مرة أنه سيقتل في مقابل قتلته.
إذاً: لو رفعت هذه الحدود من حياة الناس فإن الجرائم سترتكب بصورة فظيعة جداً؛ لأن القاتل يعلم أنه لا يقتل، والزاني يعلم أنه لا يرجم، والسارق يعلم أنه لا يقطع، ولو كان ذلك قائماً في الأمة لفكر كل إنسان في جريمته قبل أن يرتكبها، وبالتالي تراجع عنها قبل الإقدام عليها.
فهذا في حد ذاته خير عام للأمة كلها، وإن كان شراً بالنسبة للفرد.
ولو قلنا: إن أولياء القتيل قد تنازلوا عن القصاص، فالذي يتنازل عن القصاص يرجع إلى الدية، والدية مائة ناقة، ولو قلنا الآن أن الناقة بثلاثة آلاف جنيه، إذاً تكون دية هذا المقتول ثلاثمائة ألف جنيه.
فلو أن أهل القتيل فقراء، فإن ثلاثمائة ألف جنيه تغنيهم، وهذا في حد ذاته خير، وكان من العرب من يختار الدية في القتل العمد؛ لأن المسلم مخير بين ثلاث: القصاص أو الدية أو العفو، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:٢٣٧]، يعني: العفو أفضل، والقصاص والدية كلام الله عز وجل، والدية هذه يسميها العامة: العوض، إذاً هذا الشر الذي قدره الله تعالى في الكون فيه جانب من جوانب الخير، حتى بالنسبة للقاتل، فهو دفع ثلاثمائة ألف جنيه، وهذا يعتبر خراب بيوت، لكن فيه أنه سيرتدع ولا يفكر فيها ألبتة؛ لأنه ربما قتل في المرة القادمة.
المهم هناك فوائد كثيرة جداً، وأنه ليس في أفعال الله تبارك وتعالى الشر المحض، بل فيه الخير، ومن أعظم الخير للقاتل إذا دفع الدية أن يمشي آمناً على الأرض، مع أنه قد ارتكب كبيرة من الكبائر، فهذه فائدة عظيمة جداً، وخير عظيم جداً، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٧٩]، والقصاص دم مقابل دم، ونفس مقابل نفس، ورقبة مقابل رقبة، بينما لو ترك القاتل دون قصاص فانظر ما يحدث، يقول لك: فلان قتل من بني فلان أو من أسرة فلان، ونحن والله لا نرضى أن نقتل منهم فلاناً، بل لا بد أن نقتل منهم عشرة، والعشرة هؤلاء هم فلان وفلان وفلان، ويعدون أشراف العائلة التي منها القاتل، ويقولون: هذا الذي قتل ليس إنساناً معروفاً، ولا قيمة له، وإنما نختار زينة العائلة، وأكثر من هذا من يقول لك: والله لن ندع رجلاً ولا امرأة ولا طفلاً في العائلة إلا قتلناه؛ لأن الله تعالى يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:٤٥]! نعم النفس بالنفس لا النفس بالأنفس، أو الأنفس بالنفس، فهي نفس واحدة وهي القاتلة، فلو أن القاتل قتل لانتهت القضية، وطهرت ساحة أهل القتيل، فيمشون على الأرض مطمئنين آمنين، إذاً فما قيمة الاعتداء بعد ذلك على الآخرين الأبرياء؟ هذا مما حرمه الله عز وجل، وحرمه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، فليس من أفعال الله تعالى الشر المحض، بل فيه خير وفيه شر.
أما الشر فإن الله تعالى قدره تقديراً كونياً قدرياً، ولم يرض عنه شرعاً ولا ديناً، وإن كان الله تعالى أذن في وجوده من جهة الخلق، أما من جهة الكسب فإن المكتسب لذلك هو العبد.