[الآثار الواردة عن الثوري في القدر]
قال: [قال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سفيان وقد قال له رجل: يا أبا عبد الله! أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: ما أجبر، قد علمت أن ما عمل العباد لم يكن لهم بد من أن يعملوا].
فقوله له: ما أجبرهم.
جواب ذكي، واعلم أن سفيان الثوري عاش في القرن الثاني الهجري، وكان يعيش في الكوفة، وقد امتلأت الكوفة بأهل البدع، وسفيان في هذا الميدان يكاد يكون لوحده يدعو إلى السنة، وكان في قمة الغضب والعصبية.
وقد سئل الخليل بن أحمد من امرأة: لقد رأيت أهل العلم أحد الناس كلاماً، وأسرعهم غضباً، لم يا إمام؟ قال: لأن الحق معهم والباطل مع غيرهم، ومع هذا هم مصرون على باطلهم، رادون للحق الذي مع غيرهم.
فهذا هو السر الذي يجعل أهل الحق دائماً في غضب وعصبية؛ لأنهم أصحاب حق، يرون العالم بأكمله في ضياع، والعالم كله ليس صاحب قضية، وهم يعلمون القضية، فلا شك أن هذا أمر يثير جداً حفيظتهم؛ لأنهم يعلمون الحق من الله عز وجل، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فحيئذ يدخلهم من الهم والغضب والحزن ما الله به عليم.
وأما غيرهم فلا يفكر ولا يعلمون شيئاً، وبالتالي لا غرض ولا هدف لهم، وأما أهل العلم الصادقون فلهم غرض ولهم هدف من هذه الحياة، ويعلمون سنن الله تعالى الكونية في الخلق.
فقال: [أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: ما أجبرهم].
أي: إذا كنت تريد أن تعثرني فلن تستطيع؛ لأن الذي يقول: إن الله أجبر العباد على المعاصي ينفي قدرة العبد على الفعل، وينفي استطاعة العبد على الفعل، وينفي أن يكون للعبد مشيئة وإراده، مع أن الله أثبت أن له إرادة وأن له مشيئة، لكنها إرادة ومشيئة مندرجة تحت مشيئة الله عز وجل، قال: ما أجبرهم، لكن لابد أن تعلم أن أعمال العباد كلها في علم الله، وتمت بقدرة الله.
والناظر في الكلامين -أي: في النفي والإثبات- يتصور أن النفي والإثبات شيء واحد، وبينهما فرق دقيق، وهو: نفي الجبر؛ لأن سفيان لو قال لهذا المبتدع: نعم جبر الله العباد على المعاصي؛ فلابد أن يكون السؤال التالي مباشرة: إذاً فلم يعذبهم؟ فهناك فرق بين الأمرين.
قال: [قال بشر بن المفضل: رأيت سفيان الثوري في المنام، فقال لي: يا بشر! أنا مدفون هاهنا في وسط القدرية].
فتصور أن واحداً طول عمره مستمر في محاربة التبشير أو التنصير وهي التسمية الصحيحة، وحياته كلها يتنقل من بلد إلى بلد لمحاربة هذا المذهب الضال، وهذه الديانة الفاسدة، ثم في نهاية مطافه يموت في بلد من بلاد الكفر فيدفن في مقابر النصارى، بلا شك أن هذا أمر يعز عليه حتى بعد موته.
فـ سفيان الثوري عليه رحمة الله عاش حياة طويلة يحارب أمرين اثنين: الأول: أهل الرأي، فيرد الناس إلى الأثر بدلاً من اتباع قول فلان وعلان، فهذه كانت قضية من قضايا سفيان الثوري في الكوفة؛ ولذلك مدرسة سفيان كلها في الكوفة تسمى مدرسة: الأثر أو مدرسة الحديث، ومدرسة الأحناف تسمى: مدرسة الرأي، فكان بين الأحناف وبين أهل الحديث ما الله به عليم من الفتن والمشاكل في الكوفة.
الثاني: نبذ القدرية، وإظهار فساد هذا المذهب وبطلانه، ومع ذلك يختم به الأمر أن يدفن بين أقوام يتكلمون في القدر ويقولون بالقدر! فقال: يا بشر بن المفضل أبعد هذه الحياة الطويلة في حرب أهل البدع تدفنوني في وسط أهل القدرية؟! يعني: لا ينجو منهم لا حياً ولا ميتاً، كأنه أراد أن يقول ذلك.