قال:[ولكن الاستثناء يصح من العبد من وجهين: الأول: نفي التزكية]، أي: يصح الاستثناء بشرط ألا يزكي نفسه؛ [لئلا يشهد الإنسان على نفسه بحقائق الإيمان وكوامله، فإن من قطع على نفسه بهذه الأوصاف شهد لها بالجنة وبالرضاء وبالرضوان، ومن شهد لنفسه بهذه الشهادة كان خليقاً بضدها، أرأيت لو أن رجلاً شهد عند بعض الحكام على شيء تافه نزر، فقال له الحاكم: لست أعرفك، ولكني أسأل عنك ثم أسمع شهادتك، فقال له الرجل: إنك لن تسأل عني أعلم بي مني، فأنا رجل زكي مأمون رضي جائز الشهادة ثابت العدالة].
فهذا الرجل شهد لنفسه، وكأنه أعرف بنفسه من الحاكم، ولله المثل الأعلى، فهذا الرجل لم يستثن في الإيمان، بل قال: أنا مؤمن، ولم يقل: إن شاء الله.
وهذا كما حصل مع جحا حينما ذهب يريد أن يشتري حماراً من السوق، فقالت له زوجته: إلى أين يا جحا؟ قال: أنا ذاهب إلى السوق لأشتري حماراً، قالت له: قل: إن شاء الله، قال: لماذا أقول إن شاء الله؟ هذه فلوسي معي، فلما ذهب إلى السوق سرق منه المال، ثم رجع إلى زوجته فسألته: أين الحمار يا جحا؟ قال: ضاعت مني الأموال إن شاء الله! قال: [أليس كان قد أخبر عن نفسه بضعف بصيرته وقلة عقله بما دل الحاكم على رد شهادته وأغناه عن المسألة عنه، فما ظنك بمن قطع لنفسه بحقائق الإيمان التي هي من أوصاف النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحكم لنفسه بالخلود في جنات النعيم].
ولو أنك قلت: أنا مؤمن وقصدت كمال الإيمان وتمامه -الذي هو البر والتقوى- فكأنك قلت: أنا من أهل الجنة؛ لأن الله تعالى وعد المؤمنين الصادقين الأبرار المتقين بالجنة، وأن الله تعالى يتقبل عمل المتقين، فكان لزاماً على الله أن يدخلني الجنة؛ لأنني محقق لحقيقة الإيمان وكماله.
قال:[ويصح الاستثناء أيضاً من وجه آخر يقع على مستقبل الأعمال ومستأنف الأفعال، وعلى الخاتمة وبقية الأعمار].
الثاني: أن الاستثناء يصح على مستقبل الأعمال؛ إذ تعلمون أن الأعمال بالخواتيم، ولا يدري الإنسان بماذا سيختم له؟ بل لا أحد منا على يقين أنه سيخرج من باب هذا المسجد مؤمناً كامل الإيمان، فربما خرج الواحد منا مبغضاً لله ورسوله قبل أن نقوم من مقامنا، وربما يقوم الواحد منا مؤمناً كامل الإيمان، فهل نملك قلوبنا؟! ولا ندري ما الله تعالى صانع بنا؟ فإذا كنا لا ندري ما الله صانع بنا في الأفعال والأعمال، فينبغي أن نعلق فيما يتعلق بمستقبل الأعمال على التصديق بالله عز وجل.
قال: [ويريد إني مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين، وإن كنت عند الله مثبتاً في ديوان أهل الإيمان، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمراً يدوم لي ويبقى علي حتى ألقى الله به، ولا أدري هل أصبح وأمسي على إيماني أم لا؟ وبذلك أدب الله نبيه والمؤمنين من عباده، فقال تعالى:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الكهف:٢٣ - ٢٤]، فأنت لا يجوز لك إن كنت ممن يؤمن بالله، وتعلم أن قلبك بيده يصرفه كيف شاء، أن تقول قولاً جزماً حتماً: إني أصبح غداً مؤمناً، ولا تقول: إني أصبح غداً كافراً ولا منافقاً إلا أن تصل كلامك بالاستثناء، فتقول: إن شاء الله.