قال:[وعن بكر بن عبد الله المزني قال: لو انتهيت إلى هذا المسجد وهو غاص بأهله مفعم من الرجال]، أي: قد امتلأ بالرجال، [فقيل لي: أي هؤلاء خير؟ لقلت لسائلي: أتعرف أنصحهم لهم؟ فإن عرفه عرفت أنه خيرهم، ولو انتهيت إلى هذا المسجد وهو غاص بأهله، مفعم من الرجال، فقيل لي: أي هؤلاء شر؟ لقلت لسائلي: أتعرف أغشهم لهم؟ فإن عرفه عرفت أنه شرهم، وما كنت لأشهد على خيرهم أنه مؤمن مستكمل الإيمان، ولو شهدت له بذلك شهدت أنه في الجنة، وما كنت لأشهد على شرهم أنه منافق بريء من الإيمان، ولو شهدت عليه بذلك شهدت أنه في النار]، ثم قال: وهذا الموقف الثاني: [ولكني أخاف على خيرهم، فكم عسى خوفي على شرهم، فإذا رجوت لشرهم فكم رجائي لخيرهم؛ هكذا السنة]! فهذا الإمام يقعد قاعدة إيمانية عظيمة جداً كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، هذه القاعدة هي: أن أهل السنة لا يشهدون لأحد بالجنة إلا من شهد له القرآن والسنة بذلك، كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من الصحابة الكرام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد شهد لهؤلاء جميعاً بالجنة، فلا أتوقف أنا قط في دخول هؤلاء الجنة، ولو شهد القرآن والسنة بأن فلاناً في النار فلا أتوقف في اعتقادي أن فلاناً في النار، مثال ذلك: أبو طالب في النار، مع أنه عم النبي عليه الصلاة والسلام، وعبد المطلب في النار، وأبو لهب في النار؛ لأن القرآن والسنة قد شهدا بأن هؤلاء في النار، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر عن بعض من كان يجاهد معه أنه في النار بسبب بعض المعاصي التي وقع فيها وارتكبها، فأشهد أنه دخل النار لكنه لا يخلد فيها؛ لأن المؤمن أو المسلم العاصي إنما يدخل النار فيأخذ جزاءه أو يعفو الله عز وجل عنه، بخلاف المنافق فإنه في الدرك الأسفل من النار، ونحن نعتقد أن هذه الثلة المنافقة الذين كانوا في زمن النبوة خمسة عشر أو ستة عشر رجلاً كانوا من المنافقين، وهم في الدرك الأسفل من النار، وقد عدهم الإمام مسلم عدداً مجملاً ستة عشر شخصاً، وهؤلاء هم رءوس النفاق في زمانه عليه الصلاة والسلام.
لكن يبقى بعد ذلك أنني أرى أن هذا الرجل من أهل الصلاح؛ فهل ذلك يستوجب له القطع بالجنة؟ ولذلك أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يحل لنا أن نزكي على الله أحداً، لكن نقول: فلان نحسبه على الخير والله حسيبه، أي: إلى الله تعالى سره، فظاهره يحتمل الصلاح، وأعماله أعمال الخائفين، لكن هل هو محق في هذا؟ والأعمال القلبية كما قال عليه الصلاة والسلام:(وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، والعكس بالعكس، ففيما يبدو لي أن فلاناً من أهل الصلاح، لكن هل هو كذلك عند الله؟ أنا أرجو ذلك، ولا أقطع بهذا؛ لأني لو قطعت بأنه من الصالحين فلا بد أن أقطع له بالجنة؛ لأنه صالح، والجنة يدخلها الصالحون، فأقول: هو صالح، لكن الله حسيبه، وأما إن كان فاسداً فهل يحكم له بالفساد، وبالتالي يحكم له بالنار؟ لا أدري، فأنا أخاف عليه ذلك، ومعتقد أهل السنة والجماعة أنهم لا يزكون على الله عز وجل أحداً، وإنما يرجون الثواب للطائع ويخافون على العاصي، يرجون رحمة الله عز وجل للطائع، ويخافون على العاصي، أقول لك: يخافون على العاصي، ولا يتهمونه ولا يسبونه ولا يدعون عليه، وإنما يخافون عليه العذاب، ويتمنون لو أنه انتقل من حال الفساد إلى حال الصلاح والطاعة، أما الحكم له بجنة أو نار فهذا ليس لأحد.
ولذلك لما رأى أحد الصالحين رجلاً من أصحاب المعاصي على معصية فقال: والله لا يغفر الله لفلان، غضب الله تعالى من هذا القول غضباً شديداً وقال:(من ذا الذي يتألى عليَّ؟)، والتألي هو: الحلف والقسم، أي: من ذا الذي يحلف على الله أنه لا يغفر لفلان؟ وقال الله تعالى:(أشهدكم أني قد غفرت لفلان وأحبطت عمله)، أي: أن الله تعالى غفر لهذا المذنب، وأحبط عمل هذا الصالح؛ لأنه خالف منهج أهل السنة والجماعة في أنهم يتمنون الرأفة بالصالح، ويخافون على العاصي، ولا يقطعون عليه بحكم؛ لأن هذا القطع ليس لأحد إلا لله عز وجل، فمن باب التألي على الله عز وجل أن يقال: إن فلاناً من أهل النار، وإن فلاناً من أهل الجنة، كما أن منهج أهل السنة والجماعة أنهم لا يقطعون لأحد بعينه بمثل هذا، وإنما يرجون أن يكون شهيداً، وهذا لا يمنع إطلاق الشهادة العامة لا الخاصة، فنقول: شهداء بدر، شهداء أحد، شهداء الثورة؛ لأنه ليس في هذا قطع لفلان بعينه أنه من أهل الجنة، لكن لو قلت: فلان شهيد، فبهذا أكون قد قطعت له بالجنة، وبالتالي فلا بأس بإطلاق الحكم العام الذي لا يخص به أحد من بين هذه العموم، دون بقية من شاركه في ذلك.
ولذلك فهذا باب عظيم جداً من معتقد أهل السنة والجماعة، أنهم لا