الواحد منا أحياناً لا يرضى بحكم المحكم في الغالب، وإنما يرضى بقضاء القاضي رغماً عن أنفه، فالفرق بين القاضي والحكم في هذه القوانين الوضعية، أن حكم القاضي ملزم للخصمين شاءا أم أبيا، والقاضي يملك صفة التنفيذ على الخصمين شاءا ذلك أم أبيا.
ولا بد أن تعلم قبل هذا أن القاضي ربما وافق قضاؤه حكمَ الله عز وجل وربما خالف، وهو في كل الأحوال ملزم له، وفي غالب الأحوال أنه مخالف لحكم الله عز وجل، خاصة في ظل هذه القوانين الوضعية التي هي زبالات عقول البشر، أما المحكم فإنه في الغالب إما أن يكون ارتضاه الخصمان من باب العادة، وإما يكون قد ارتضاه الخصمان امتثالاً لحكم الله عز وجل:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}[النساء:٣٥]، يعني: يأتي شيخ أو رجل من أهل العلم يرتضيه الخصمان حَكَمَاً بينهما، يقضي بينهما بما أنزل الله وبما قضى به رسوله عليه الصلاة والسلام، فالرجل العالم يجتهد ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فلو وافق حكمه حكم الله عز وجل فلا بد أنه يرضي أحد الخصمين ولا يرضي الآخر، فيتنكب هذا الخصم الطريق؛ لأنه يعلم أن حكم هذا الحاكم أو المحكم لا يملك قوة التنفيذ، فيرفضه، وهو يعلم أن هذا هو كلام الله، وأن هذا هو حكم الله، فمن فعل ذلك فليعلم أنه داخل تحت قول الله عز وجل:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ}[النساء:٦٥]؛ لأنه رضي بحكومة هذا المحكم رجاء أن يصل إلى أمر يرضيه هو لا أمر الشرع.
فمهمة القاضي والمحكم إظهار حكم الله عز وجل وإظهار حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن القاضي في هذا الزمان يزيد عن المحكم أنه يملك سلطة التنفيذ، لكن المحكم لا يملك هذا، ولذلك يستهين به الخصوم، مع أنه عند الله عز وجل أولى من هذا القاضي الجاهل بكلام الله والجاهل بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء الناس إنما يرضون بحكمه إذا وافق هواهم، فهؤلاء ما أطاعوا الله في هذا التحكيم، وما أطاعوا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فويل لهم ثم ويل لهم.
ومع هذا ينتقلون من عند هذا المحكم إلى القاضي، وربما حكم القاضي بنفس ما حكم به المحكم، لكن لا يجرؤ واحد منهما أن يقول: إن هذا الحكم لا يعجبني؛ لأنه يعلم أن الحبس مصيره، ويعلم أن القتل مصيره، ويعلم ما يملكه القاضي من سلطة تنفيذية، فما بالنا لا نرضى بحكومة أهل العلم، وبقضاء أهل العلم، وبفصل أهل العلم في المنازعات؟! ولماذا نلجأ إلى هذه القوانين الباطلة الزائفة المستوردة من هنا وهناك، ولا نلجأ إلى أصحاب الدين وأصحاب المنهج السليم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟! لماذا لا تقبل أنت حكومة العالم الذي يقضي في قضيتك التي ربما تبقى في المحاكم عشرات السنوات؟ لماذا لا تقبل حكم المحكم العالم بكتاب الله وسنة رسوله في مجلس واحد؟ متى يكون هذا الكلام واقع الناس وحياة الناس وقلوب الناس، ودين الناس؟ أنتم تعلمون ما نحن فيه من ذل وهوان، ورب السماء والأرض ما هذا إلا بسبب البعد عن كتاب الله وعن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنا لا أخاطب الفساق ولا الفجار، وإنما أخاطب أهل المساجد وأهل الصلاة، وأصحاب اللحى، وصاحبات النقاب هذه البلايا فينا قبل غيرنا، فمتى نرجع؟ نحن الشيوخ والعلماء وطلاب العلم متى نرجع أولاً قبل الناس إلى الله عز وجل؟ وحذار أن تتصور أنني أخاطب الفجرة أو الفساق، أو المجرمين، وإنما أخاطب نفسي أولاً ثم أخاطبك بعد ذلك: متى العودة إلى الله عز وجل؟ لا بد أن تعلم أن هذا خلل في العقيدة، فلا تظن أن هذا خلل في المسلك أو في المنهج، هذا -والله- خلل في الاعتقاد، فأنت موقوف ومسئول، والله تعالى يسألك ليس بينك وبينه ترجمان، يوم أن تنظر أيمن منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أشأم منك فلا ترى إلا ما قدمت، ثم تنظر تلقاء وجهك فلا ترى إلا النار، والله عز وجل قادر على أن يقذف جميع عباده في النار ولا يبالي:{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء:٢٣].
الله تبارك وتعالى لا يخاف عاقبة الأمور، لا أحد يلومه: لم ألقيت عبادك في النار، والله عز وجل لا يظلم الناس مثقال ذرة، فإذا أدخلك الجنة فبفضله، وإذا أدخلك النار فبعدله، وراجع عملك ثم حاسب نفسك: هل تستحق الجنة بما قدمت من عمل؟ لا والله، ليس أحد منا يستحق الجنة بعمله، وإنما الجنة بفضل الله عز وجل ورحمته، ولذلك إذا قذفك في النار مهما كنت عابداً فليس بظالم لك، فقدم اليوم ما ترجوه غداً، واحذر اليوم ما تهرب منه غداً.