[احتجاج أهل الباطل بالمتشابه والمحتمل من كلام العلماء والرد عليهم في ذلك]
وهناك جماعة مبتدعة من الجماعات العاملة على الساحة لو أتيتهم وقلت لهم: إن عملكم هذا غير مشروع، ولا دليل عليه من الكتاب والسنة؛ قالوا: الشيخ ابن باز أفتى بمشروعية هذا العمل.
نقول لهم: هل تأخذون بكلام الشيخ ابن باز كله وبفتاواه كلها؟ لا، ونقول: لم لم يردوا إلى عالم من علمائهم؟ لأنهم يعلمون أنهم لا عالم عندهم ابتداء، ولكنهم يقولون: عندنا علماء، لكن حين النقاش والنزاع والمناظرة يعجزون أن يثبتوا أن في جماعتهم عالماً.
والعجيب كيف يكون هذا العمل صحيحاً وليس له رجل من أهل العلم يحله ويجيزه لهم؟! وأنا لا أتصور أن جماعة تحترم عقلها وتحترم منهجها لا يكون من بين أبنائها علماء، وبدل العالم عشرة وعشرون ومائة، لكنهم يحتجون بكلام رجل معتبر عندنا، ولا يحتجون بكلامه كله؟ وإنما يحتجون بكلام مشتبه يحتمل الرأي والرأي الآخر لهذا الإمام.
وأذكر أنه في عام (١٩٨٣م) ذهب بعض الطلبة يسأل الشيخ ابن باز عن حكم عمل الجماعة الفلانية؟ قال: لا يدخل الجنة إلا سلفي.
وهذا كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تدخل الجنة عجوز).
قال: لا يدخل الجنة إلا سلفي، ثم هرعت إليه الجماعة، وقالوا: يا شيخ بلغنا أنك قلت كذا وكذا؟ قال: نعم أنا قلت هذا، قالوا: كيف، نحن لسنا سلفيين؟ قال: ألا تحبون السلف؟ قالوا: نعم، نحن نحب السلف، قال: هل يسعكم مخالفة السلف في العقيدة؟ قالوا: لا، لا يسعنا، بل لا بد أن نكون على مذهبهم في الاعتقاد، قال: أليس تتبعونهم فيما أحلوا وفيما حرموا؟ قالوا: نعم، نتبعهم، قال: إذاً: أنتم سلفيون.
هذه هي شهادة الشيخ، وقالها مداعبة، فيحتجون بها علينا ويقولون بمشروعية العمل الذي هم فيه، ودائماً يحيلون هذا الكلام للشيخ ابن باز.
والشيخ ابن باز رحمه الله يذكرنا بالإمام البخاري؛ فقد كان لطيف العبارة جداً، ولطيف النقد إلى أقصى حد، فما دام يرى احتمال العمل، وأنه يمشي ولا بأس به، وله من جوانب الخير الشيء الكثير؛ كان يترفق جداً في نقد العمل، فقال هذه الكلمة التي تحتمل معان متعددة، فهم قد يحتجون بها أو يحتجون به.
قال: [كذب على الحسن ضربان من الناس: قومُ القدر رأيهم، فهم يريدون أن ينفقوا بذلك رأيهم.
وقوم في قلوبهم له حسد وبغض، يقولون: ليس من قوله كذا وكذا، وليس من قوله كذا وكذا].
فينتقون من كلام الحسن كلاماً يوافق أهواءهم.
قال: [وعن خالد الحذاء قال: قدمت من سفر فإذا هم يقولون: قال الحسن: كذا وكذا، فأتيته فقلت: يا أبا سعيد، أخبرني عن آدم خلق للسماء أم للأرض؟ قال: بل للأرض، قلت: أرأيت لو اعتصم فلم يأكل من الشجرة، قال: لم يكن منه بد، قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:١٦٢ - ١٦٣]، قال: إن الشياطين لا يفتنون بضلالتهم إلا من أوجب الله له ذلك].
يعني: الشياطين لا تضل أحداً إلا إذا كتب الله تعالى له الضلال من قبل في الأزل.
ثم قال: [وعن داود قال: سألني بلال عن قول الحسن في القدر: فقلت: سمعت الحسن يقول: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود:٤٨] قال: نجّى الله نوحاً والذين آمنوا معه وأهلك الممتعين، فجعلت أستقريه الأمم -أي: أمة أمة، ونبياً نبياً- قال بلال: وما أراه إلا كان حسن القول في القدر].
يعني: ما أجاب إلا بإجابة موافقة لكلام الصحابة والتابعين في القدر.
[وعن حمزة بن دينار قال: عوتب الحسن في شيء من القدر فقال: كانت موعظة فجعلوها ديناً].
انظر هذا الكلام الجميل، فالكلام الذي فيه شيء من التجوز في الموعظة لا نتوقف عنده، وإنما يكون غرض الواعظ أن يعظ الناس في باب من الأبواب، والموعظة تكون في الغالب ارتجالية خاصة عند السلف، فما كانوا يحتاجون إلى ما نحتاج إليه نحن اليوم من الإعداد والحفظ والمدارسة، أو المراجعة والسؤال والجواب وغير ذلك، كان الواحد منهم إذا جاء إلى مجلس مثل هذا ليعظ في باب من الأبواب، كما كان ابن الجوزي يفعل، كانت بغداد كلها تجتمع له، فيقولون: يا إمام عظنا والملوك والأمراء والسلاطين وكل أصحاب الوجاهات والهيئات موجودون، فكان يقيم واحداً من مجلسه فيقول له: اضرب بيتاً من الشعر -وانظر إلى براعة ابن الجوزي - فيضرب بيتاً فينسج ابن الجوزي على قافية هذا البيت أي: على آخر حرف في البيت ينسج موعظة عظيمة شعراً أو نثراً لبعض الوقت، لا يخطئ هذه القافية.
وهذا لا يوجد في هذا الزمان، لكن قد يق