[قول ابن حزم رحمه الله تعالى]
قال الإمام ابن حزم في كتاب الفصل: وأما قولهم -أي: المرجئة-: إن شتم الله تعالى ليس كفراً، وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فهذا مجرد دعوى، يعني: لا دليل عليها؛ لأن الله تعالى قال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:٧٤]، فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر، فيخرج الإنسان من الإيمان بمجرد الكلمة وإن لم يستحل، باستثناء المكلف؛ لأن الأصل أنه يعرف ماذا يقول.
أما الغضب فله مراتب كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
فمنه الإغلاق، أي: الذي لا يدري معه المرء ماذا يقول، ولا ماذا يفعل، حتى مثل بعض أهل العلم على ذلك: بأنه إذا ألقى ولده من مكان شاهق، أو نزل إلى الوادي فقتله، فلما أفاق من غضبه قيل له: لم قتلت ولدك؟ قال: والله ما قتلته، فكذلك لو أن واحداً بلغ به الغضب هذا المبلغ بحيث لا يدري ما يقول؟ فإنه لو قال كلمة كفر فلا يكفر بها؛ لأنه غير مكلف؛ ولأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق)، وهذا الذي بلغ به الغضب هذا المبلغ هو كالمجنون سواء بسواء، ولذلك لو نكح لا ينعقد نكاحه، ولو طلق لا يقع طلاقه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق في إغلاق)، أي: شدة الغضب.
وهناك غضب بسيط يستطيع الإنسان فيه أن يكبح جماح نفسه، وهذا الغضب يسميه ابن تيمية: الغضب البسيط، وهذا النوع من الغضب تترتب عليه الأحكام، فإذا طلق رجل امرأته في هذا الغضب فإنه يقع.
وهناك غضب بين هاتين المرحلتين، أو بين هذين الغضبين: الإغلاق والبسيط، وهو غضب شديد يدرك معه المرء ما يقوله، ويستطيع أن يكبح جماح نفسه، فالجمهور على أن هذا الرجل إذا نطق بكلمة الكفر كفر، وإذا طلق وقع طلاقه، والأحناف بخلاف ذلك، ولذلك عندما تذهب إلى الأزهر وتقول: طلقت امرأتي وأنا غاضب؟ فيقولون لك: لم يقع الطلاق؛ لأنهم يأخذون بالأنفع لحياة الناس، والأزهر عندهم مذهب الأحناف، وهذا الذي تتبناه لجنة الفتوى بالأزهر، بينما بعض أهل العلم في الأزهر يقولون بمذهب الجمهور، وبهذا التقسيم الذي قسمه ابن تيمية في الغضب، لكن تجد العوام الذين عرفوا توجه الأزهر من أمكر خلق الله! فتجد أحدهم يدخل على العالم فيقول: يا شيخ أنا كنت غضبان.
من غير أن يقول له: أنا طلقت، أو لم يطلق، أو أي شيء آخر، ثم يقول له العالم: أنت كنت غضباناً إلى درجة أنك ممكن تقتل ابنك؟ فيقول له: لا، أنا كنت غضباناً وغير مرتاح، وكنت أصيح وغير ذلك، فيقول له: ومن الذي أغضبك؟ فيقول له: فلان وفلان، يعني: أنت كنت في أتم عقلك وإدراكك أن فلاناً وفلاناً كانوا موجودين؟ فيقول: نعم، إذاً طلاقك قد وقع، فيقول له: يا شيخ هم يقولون لي: إن الأزهر يقول: إن الغضبان لا يقع طلاقه، يعني: هو أتى ومعه فتواه، فيفاجأ بأن الأزهري يقول له: إن طلاقه قد وقع، ويقول له: اذهب وتزوج واحدة أخرى، ويذهب فيتزوج واحدة أخرى وهكذا، والشيخ إذا قلت لهم أي شيء يقول لك: ما دام هكذا خيرنا في مذهب الأحناف.
وقال تعالى: {إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:١٤٠]، فنص تعالى على أن الكلام في آيات الله تعالى منه ما هو كفر بعينه، يعني: بمجرده هو كفر، وأمرنا بترك مجالستهم.
وقال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:٦٥ - ٦٦]، فنص الله تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى، أو بآياته، أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك: إني علمت أن في قلوبكم كفراً، يعني: لم يعلق الكفر على معرفته بما في قلوبهم، وإنما على مجرد الاستهزاء، بل جعلهم كفاراً بنفس الاستهزاء، ومن ادعى غير هذا فقد قول الله تعالى ما لم يقل، وكذب على الله تعالى.
ثم قال: الجحد لشيء مما صح البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر، وهذا باتفاق، فالصلاة من الإيمان وجحودها كفر، والنطق بشيء مما قام البرهان بأن النطق به كفر كفر، إذاً ترك العمل المتفق على أنه من الإيمان جحوداً كفر، فالصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصيام من الإيمان، والحج من الإيمان، فمن جحد شيئاً من ذلك فقد كفر.
وبالتالي فيكون هذا كفر بالعمل والاعتقاد أننا نقول: جحد، لكن هل يمكن أن يقع الكفر بالقول؟ نعم، وهذا القول جاء بالنص أو انعقد الإجماع على أن قائله كافر، قوله: والعمل بشيء مما قام البرهان بأنه كفر كفر كذلك، يعني: يريد أن يقول لك: عندي الآن ثلاثة إجماعات: إجماع أن من اعتقد شيئاً هو كفر