[بيأن أن الأدلة الشرعية لا يقع فيها التضاد والتناقض حقيقة]
قال: [وأدل من ذلك ما جاء من أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم التي أجمع أهل العلم بها على صحتها لا يقع فيها التتضاد].
أي: لا يمكن أن يحصل فيها تضارب؛ لأنها من مشكاة واحدة وهي مشكاة الوحي، قال: [وأقواله وكلامه صلى الله عليه وسلم لا تتناقض ولا تتناسخ، وربما صحت الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم بالاختلاف والتناسخ، فكان ذلك في التحليل والتحريم، والتخفيف والتشديد].
هو يريد أن يقول: إن كلام الله عز وجل، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام منه ما هو خبر، ومنه ما هو إنشاء، والإنشاء بابه طويل وعظيم جداً، ومتفرع منه الحلال والحرام، والتخفيف والتشديد، ومنه المنسوخ وغير المنسوخ، والنسخ يلحق الإنشاء ولا يلحق الخبر، فغير الأخبار معرضة للنسخ، والنسخ إنما يكون في زمن النبوة، أي: أنه لا نسخ بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه الطريق الدال على النسخ.
قال: [فكان ذلك في التحليل -أي: مسألة النسخ- والتحريم، والتخفيف والتشديد للأمر يحدث، والسبب يعرض، والعذر يحضر، فأما الأخبار الواردة التي تجري مجرى الخبر عن الله عز وجل والإعلام عنه؛ فمعاذ الله أن تتضاد هذه الأخبار، أو تتناقض هذه الأقوال].
أي: هل يمكن أن يأتي النسخ فيما يتعلق بصفات الله عز وجل، فبعد أن كان رحيماً نسخت رحمة الله عز وجل؟ لا يمكن؛ لأن الله تعالى أخبر عن نفسه بأنه رحيم، وأنه رحمان، وأنه غفور، وأنه ودود، فلا يمكن لهذه الأخبار أن يلحقها النسخ، لكن الإنشاء مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)، فهذا أمر، والأمر نوع من أنواع الإنشاء، إذاً: فالإنشاء بجميع فروعه ومسائله يمكن أن يلحقه النسخ، وأما الأخبار فليست قابلة للنسخ، وبالتالي الإنشاء لا يلحقه تصديق ولا تكذيب، لكن يلحقه نسخ، والأخبار يلحقها التصديق ويلحقها التكذيب، فيقال: هذا خبر صادق، وهذا خبر كاذب.
ولذلك قال: [اعلم رحمك الله أن أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم التي أجمع أهل العلم بها على صحتها لا يقع فيها التضاد، وكذلك أقواله وكلامه لا تتناقض ولا تتناسخ، وربما صحت الأخبار عنه عليه الصلاة والسلام بالاختلاف والتناسخ، لكن ذلك في التحليل والتحريم -وهو الإنشاء- والتخفيف والتشديد للأمر يحدث، والسبب يعرض، وللعذر يحضر.
فأما الأخبار الواردة التي تجري مجرى الخبر عن الله عز وجل والإعلام عنه؛ فمعاذ الله أن تتضاد هذه الأخبار، أو تتناقض هذه الأقوال، وإنما أتى من أتى فيها وافتتن من افتتن بها من اشتباه لفظها -هل هي خبر أم إنشاء؟ -، وضيق الأعطان، وسوء الأفهام، وضعف طبيعته عن معرفتها، وإلا فكيف يجوز لمتأول أن يتأول أن كل مولود على الفطرة، وأريد بذلك أن كل مولود على دين الإسلام وشريعة الإيمان؟!].
يريد أن يقول: إن هذا كلام في منتهى السفه والغفلة؛ أي: من فسر ذلك بأن كل مولود يولد على فطرة الإسلام.
قال: [وأريد بذلك أن كل مولود على دين الإسلام وشريعة الإيمان، وصريح قول النبي عليه الصلاة والسلام وفصيح إعرابه الذي لا يحتمل التأويل، ولا يتولد فيه التعطيل؛ أتى بغير ما تأولته أصحاب هذه المقالة].
يريد أن يقول: إن الكلام الصحيح لتفسير قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) هو بخلاف ما ذهب إليه من قال: إن الفطرة هي الإسلام.
قال: [ولا أدل على ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (الوائدة والموءودة في النار)، والوائدة: هي القاتلة لابنتها، والموءودة هي الصبية الطفلة التي قتلها أبواها، فلو كانت الموءودة مسلمة].
أرأيتم من أين أتت الشبهة؟ فهو يقول لك: الوائدة والموءودة كلاهما في النار، وهذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، والوائدة هذه بالغة ومشركة وكافرة فتستحق النار، فإن لم يكن للوأد فلكفرها أو العكس، والأصل أن الموءودة وئدت، أي: دفنت في التراب حية حتى ماتت، فلو كانت مسلمة فكيف تدخل النار؟ والنبي هنا قد قضى لها بالنار! قال: [فلو كانت الموءودة مسلمة لما كانت في النار، وبالأحرى أن تكون في الجنة لا محالة على ما تتأوله القدرية؛ لأنها طفلة مسلمة ومقتولة مظلومة، وبقوله أيضاً حين سئل عن أطفال المشركين، فقال: (مع آبائهم في النار)].
فالنبي عليه الصلاة والسلام سئل مرة عن أطفال المشركين فقال: (هم في الجنة)، وسئل مرة أخرى عن أطفال المشركين فقال: (مع آبائهم في النار)، وسئل مرة ثالثة عن أطفال المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين).
فهذه أخبار، ونحن قد اتفقنا على أن الخبر لا يلحقه النسخ، فلماذا اختلفت أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم؟ سيأتي معنا الجواب.
قال: [ثم سئل عنهم ثانية، فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، أن السؤال الثاني خرج مخرج الاستفهام: لم صاروا في النار؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين].