[قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة)، وقوله تعالى (لا تدركه الأبصار)]
المسألة الثامنة: قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣]، وقال في آية أخرى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:١٠٣].
فقالوا: كيف يكون هذا؟ يخبر أنهم ينظرون إلى ربهم، وقال في آية أخرى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:١٠٣]، فشكوا في القرآن وزعموا أنه متناقض لأجل ذلك.
قال الإمام: أما قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:٢٢]، من النضرة والحسن والبياض والبهاء، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٣]، أي: تعاين ربها عز وجل في الجنة، فهي تنظر إليه بأعينها، وهذا خاص بالمؤمنين دون غيرهم، وعلى هذا إجماع أهل السنة كما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (هل ترون القمر ليلة البدر، ليس دونه غيم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: هل ترون الشمس في رابعة النهار؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته).
وفي رواية: (لا تضارون في رؤيته)، أي: لا يحصل لكم ضيم ولا غيم ولا اختلاف دون رؤيته، فكما أنكم ترون القمر في ليلة البدر حقاً مستديراً نيراً مضيئاً؛ فكذلك سترون الله عز وجل، وليس هذا تشبيهاً لله عز وجل بالقمر، وإنما هو تشبيه للرؤية بالرؤية، لا تشبيه للمرئي بالمرئي، وهذه جزئية في غاية الأهمية، ودائماً أهل السنة يدندنون حول هذا الأمر.
قوله: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر)، تشبيه للرؤية بالرؤية، لا المرئي وهو الله عز وجل بالمرئي وهو القمر، فالله تعالى ليس كالقمر، ولا نقول: إنه كالقمر، بل ذات الله تعالى وصفاته لا يعلم كيفيتها إلا هو، فنحن نؤمن بها ونثبتها لله كما أثبتها لنفسه كما يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى.
وأما التشبيه والتكييف والتمثيل فلا نقول به، كما لا نقول بالتعطيل والتحريف والتأويل من باب أولى.
أما قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:١٠٣]، فالإدراك بمعنى الإحاطة، فأنت عندما تنظر إلي لا تدركني؛ لأنك تراني من أحد جوانبي، ولا تراني من كل جوانبي.
وإذا حملنا الإدراك على الرؤية فنقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣]، أي: في الدنيا، فلا تستطيع العين أن تنظر إلى الله تعالى، والله تعالى مرئي، لكن في الآخرة وليس في الدنيا، ولذلك لما سأل موسى عليه السلام ربه فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣]، ولم يقل: أنا لا أُرى، وإنما قال: لن تراني، أي: لن تراني يا موسى وأنت في هذه الحياة الدنيا، {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣]، لكن الجبل لم يستقر، بل {جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:١٤٣]، وهذه آية من آيات الله عز وجل، لو قال الله تعالى لموسى: أنا لا أُرى؛ لكان هذا نفياً للرؤية في الدنيا والآخرة، لكنه قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣]، أي: لن تراني الآن وأنت في هذه الحياة، لكنك بعد موتك وبعثك ستراني يوم القيامة، وكذا تراني في الجنة.
فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣]، أي: لا تحيط به الأبصار حتى بعد أن تراه في الآخرة.
ومن فسر الإدراك بالرؤية حمل الآية على: لن تراني، أو لا تراه الأعين والأبصار في الدنيا.
فلا تعارض بين قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣]، وبين قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣].
و (يومئذ) هو يوم القيامة باتفاق المفسرين وباتفاق أهل السنة.
ولم يختلف أهل السنة والجماعة في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وفي الجنة، أما الكافرون والمشركون فإنهم لا يرونه، بل يحجبون عن رؤيته.
ووقع خلاف بين أهل العلم من أهل السنة في رؤية المنافقين لله عز وجل: فبعضهم يقول: يرون الله تعالى رؤية ذل وصغار، أي: يعاقبهم الله عز وجل فينظرون إليه، ويسمح لهم بالنظر إليه تحسراً على ما كان منهم من نفاق.
ومنهم من يقول: بل هم كالكفار؛ لأنهم حقيقة كفار، فهم لم يؤمنوا بالله ولا برسوله، وهذه المسألة مما لا يبدع فيها المخالف.
فقال: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣]، أي: في الدنيا دون الآخرة، وذلك أن اليهود قالوا لموسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} [النساء:١٥٣]، فماتوا وعوقبوا لقولهم: ((أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً))، وقد سأل مشركو قريش النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللّ