[تبيين الله لعباده وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن الإيمان قول وعمل]
قال: [فقد أخبر الله تعالى في كتابه في آي كثيرة منه: أن هذا الإيمان لا يكون إلا بالعمل وأداء الفرائض بالقلوب والجوارح، وبيَّن ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرحه في سنته، وعلمه أمته، وكان مما قال الله تعالى في كتابه مما أعلمنا أن الإيمان هو العمل، وأن العمل من الإيمان ما قال في سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة:١٧٧]]، وهذا عمل، فقوله: ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ))، حتى قال: ((وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ))، يعني: تصدق به رغم محبته إياه.
قال: [{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:١٧٧]].
فهذه الآية انتظمت أوصاف الإيمان وشرائطه من القول والعمل والإخلاص، وهي أصول الإيمان وشرائطه.
ولقد سأل أبو ذر النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؛ فتلا عليه هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:١٧٧] إلى آخر الآية، فقال رجل لـ أبي ذر يسأله نفس المسألة التي سألها أبو ذر للنبي عليه الصلاة والسلام، فأجاب أبو ذر بنفس الإجابة فقال له: (ليس عن البر سألت)، أنا لست أسألك عن البر، فقال أبو ذر: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله كما سألتني، فقرأ عليه كما قرأت عليك، فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى، فقال: ادن مني، فدنا منه، فقال: المؤمن الذي يعمل حسنته فتسره؛ فيرجو بها -أي: وجه الله- ومن عمل سيئة فتسوءه ويخاف عاقبتها)، أي: أن المؤمن هو من سرته حسنته وساءته سيئته؛ لأنه يلقى جزاءها عند الله عز وجل يوم القيامة.
وأنتم تذكرون قصة كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه لما تخلف عن غزوة تبوك، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأغلقت الدنيا تماماً في وجهه؛ وذلك لأن سيئته ساءته، فهذا دليل عظيم على الإيمان، والصحابة رضي الله عنهم لما حدثهم الشيطان في ذات الله عز وجل قالوا: (يا رسول الله! إن أحدنا لتحدثه نفسه بالشيء، لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ذاك صريح الإيمان)، على أنهم ساءتهم هذه الوساوس، فهذا دليل على إيمانهم.
أما الذي يأتي المعاصي، وينكر المعروف، ويعرف المنكر، ويستهزئ ويستهتر، ولا يتعامل مع الله ولا مع رسوله ولا كتابه وسنته وشرعه إلا بكل استهزاء وسخرية، فكيف يكون هذا في قلبه ذرة من إيمان؟ ليس هناك فرق، فهذا مسلم وذاك كافر أبداً.
قال الشيخ: [وقد أنبأنا الله عز وجل في كتابه عن معرفة الإيمان بدلالات القرآن أنه قول وعمل وتصديق ويقين].
وهذا تعريف راجع لمعنى الإيمان، أو لماهية الإيمان، ومرد ذلك كله: إلى أن الإيمان قول وعمل: قول اللسان والقلب، وعمل بالقلب والجوارح، فقال هنا: دلت آيات القرآن على أن الإيمان قول وعمل وتصديق ويقين، وأن جميع ما فرضه الله في القرآن شفاء لما في الصدور من الشك والشبهة؛ لأن البلاء كله الذي يمكن أن يقع فيه المرء يدور بين أمرين: شبهة أو شك.
أما علاج الشبهة فهو العلم، ولا سبيل إلى علاج الشبهات إلا بالعلم، ولا مصدر صحيح للعلم إلا قال الله وقال رسوله كما قال ابن القيم عليه رحمة الله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه قال الله وقال رسوله وأجمع العلماء؛ هذه هي مصادر العلم، ولا مصدر رابع لهذه المصادر الثلاث، إلا أن يكون القياس صحيحاً، وإذا كان العلم هو علاج الشبهات، فإن علاج الشهوات تقوى الله.
فعندي الآن مرضان وعلاجان: المرض الأول: هو الشبهة، وعلاجها العلم، فبالعلم تنزاح الشبهات عن القلوب.
والمرض الثاني: هو الشهوة، وعلاجها تقوى الله عز وجل، واستحضار مراقبة المولى عز وجل، ومخافة الله عز وجل، وكل ما يمكن أن تجمعه كلمة تقوى الله هي علاج الشهوات، أما علاج الشبهات فهو طلب العلم المستمد من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم.
قال: [وأن جميع ما فرضه الله في القرآن شفاء لما في الصدور من الشك والشبهة والريبة؛ لما فيه من البيان والبرهان والحق المبين]، ولكن الله عز وجل جعله شفاءً ورحمة للمؤمنين لا لغيرهم، الله عز وجل يهدي بهذا الكتاب أقواماً، ويض