[موقف ابن عباس ممن يتكلم في القدر]
قال: [وعن أبي الزبير قال: كنا نطوف مع طاوس -أي: طاوس بن كيسان اليماني - فمررنا بـ معبد الجهني -وهو زعيم القدرية- فقيل لـ طاوس: هذا معبد الذي يقول في القدر -أي: الذي ينكر القدر- فقال له طاوس: أنت الكاذب على الله عز وجل بما لا تعلم؟ قال: فقال: يكذب علي! -أي: هم يفترون علي، فهذا الذي وصلك وبلغك عني كذب وافتراء- فدخلنا على ابن عباس فقال له طاوس: يا أبا عباس! الذين يقولون في القدر -يعني: هنا أناس قاعدون في هذا المجلس يتكلمون في القدر- قال ابن عباس: أروني بعضهم، قال طاوس: صانع ماذا؟ -يعني: لو أريناكهم ماذا ستصنع بهم؟ - قال: أدخل يدي في رأسه ثم أدق عنقه].
وابن عباس كان كفيفاً في كبره.
[وعن مجاهد قال: ذكر القدرية عند ابن عباس، فقال: لو أريت أحداً منهم عضضت أنفه].
أي: عضضت أنفه حتى أقطعه.
[وذكروا عند ابن عمر فقال: من لقيهم منكم فليبلغهم أني منهم برئ، وأنهم مني براء].
يعني: ليسوا منا ولسنا منهم؛ لأنهم مجوس وليسوا مسلمين، فالذي يقول: إن الله لم يقدر الشر، وما علمه إلا بعد أن وقع، وأن هذا لم يكن مكتوباً في اللوح المحفوظ؛ فهو كافر وخارج عن ملة الإسلام، وهذا ظاهر كلام عبد الله بن عمر في الحديث الطويل؛ حديث جبريل عليه السلام عند الإمام مسلم، وقال النووي: ظاهر كلام عبد الله بن عمر أنه يكفر القدرية.
[وعن ابن عباس قال: الإيمان بالقدر نظام التوحيد -يعني: أصل التوحيد- فمن وحد الله وكذب بالقدر؛ كان تكذيبه بالقدر نقضاً للتوحيد -يعني: لم يكن موحداً، بل كان مشركاً مجوسياً، وقد شابه المجوس في جعلهم للكون إلهين: إلهاً للخير، وإلهاً للشر- ومن صدق بالقدر كانت العروة الوثقى التي لا انفصام لها].
قوله: (ومن صدق بالقدر) أي: من آمن به، وأن كل شيء بقدر: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩]، وأن الله تعالى قدر الخير وأراده وشاءه، وأمر به وأحبه وأحب أهله، وقدر الشر، وأذن في وجوده وخلقه ولم يرضه، بل توعد فاعله بالوعيد الشديد في الدنيا والآخرة.
[وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:٢٤]-يعني: الله يمنع العبد من أن يأتي خيراً أو شراً- قال: يحول بين المؤمن وبين المعاصي، وبين الكافر وبين الإيمان].
فالله تعالى يحول بين المؤمن وأن يقع في المعصية، ويحول بين الكافر وأن يؤمن بالله تعالى.
[وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:٢٣]، قال: أضله على علم قد علمه عنده].
أي: أضله الله تعالى على علم منه بأن عبده هذا سيكون عبداً ضالاً.
[وجاء عبد الله بن عباس في ثلاثة نفر يتماشون، فقالوا: هيه يا ابن عباس! حدثنا عن القدر، قال: فأدرج كم قميصه حتى بدا منكبه] يعني: كأنه يقول: تريدون أن نتكلم عن القدر؟ ثم شمر عن ذراعيه إلى حد المنكب، وهذه حركة ظريفة جداً من ابن عباس مع أنه كفيف، فأبدى الاستعداد لمحاربة أهل البدع.
[ثم قال: لعلكم تتكلمون في القدر؟ قالوا: لا، قال: والذي نفسي بيده! لو علمت أنكم تتكلمون فيه لضربتكم بسيفي هذا ما استمسك في يدي] يعني: سأضربكم بسيفي إلا أن تغلبوني فتأخذونه مني.
[وعن طاوس قال: كنا جلوساً عند ابن عباس وعنده رجل من أهل القدر، فقلت: يا أبا عباس! كيف تقول فيمن يقول: لا قدر؟ -يعني: ليس هناك شيء اسمه قدر، وأن الله ما قدر شيئاً، بل ما علم شيئاً إلا بعد وقوعه- قال: أفي القوم أحد منهم؟ قلت: ولم؟ -يعني: لماذا تسأل؟ - قال: آخذ برأسه، ثم أقرأ عليه آية كيت وآية كيت -أي: الآيات المثبتة للقدر- حتى قرأ آيات من القرآن؛ حتى تمنيت أن يكون كل من تكلم في القدر قد شهده، فكان فيما قرأ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:٤]].
وهذا الذي تمر به الأمة اليوم هو العلو الثاني والأخير لبني إسرائيل، فلا علو بعد هذا العلو أبداً، وآية ذلك أن العلو الثاني علامته وأمارته أن جاء الله تعالى بهم لفيفاً -أي: جماعات وأفواجاً من الأرض كلها- حتى نزلوا أرض فلسطين؛ ليتم وعد الله الأخير في هلاك بني إسرائيل، وفي هلاك دولة اليهود.
فالله تعالى لما قال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ